معرفة الله في الإيجاد والربوبية. لأنهما سببان قريبان في الوجود والتربية. وواسطتان جعلهما الله تعالى مظهرين لصفتي إيجاده وربوبيته. ولهذا قال: (من أطاع الوالدين فقد أطاع الله ورسوله) فعقوقهما يلي الشرك ولا يقع الجهل بحقوقهما إلّا عن الجهل بحقوق الله تعالى ومعرفة صفاته. ثم بالنهي عن قتل الأولاد خشية الفقر. فإن ارتكاب ذلك لا يكون إلا عن الجهل والعمى عن تسبيبه تعالى الرزق لكل مخلوق.
وأن أرزاق العباد بيده، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. والاحتجاب عن سر القدر، فلا يعلم أن الأرزاق مقدرة بإزاء الأعمار كتقدير الآجال. فأولاها لا تقع إلا من خطئها في معرفة ذات الله تعالى. والثانية من خطئها في معرفة صفاته. والثالثة من معرفة أفعاله.
فلا يرتكب هذه الرذائل الثلاث إلا منكوس محجوب عن ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وهذه الحجب أمّ الرذائل وأساسها. ثم بيّن رذيلة القوة البهيمية لأن رذيلتها أظهر وأقدم فقال: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ، ثم أشار إلى رذيلة القوة السبعية بقوله:
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ. الآية.
[القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٢]]
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢)
وقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
أي: بوجه من الوجوه إِلَّا بِالَّتِي
أي:
بالخصلة التي هِيَ أَحْسَنُ
يعني أنفع له. كتثميره أو حفظه أو أخذه قرضا. لا بأكله، وإنفاقه في مآربكم وإتلافه، فإنه أفحش. وقد ذكرنا طرفا فيما رخص فيه لوليّ اليتيم أو وصيه في قوله تعالى في سورة النساء وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: ٦] وقد روى (أبو داود) «١» عن ابن عباس قال: لما أنزل الله: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
الآية، و: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى [النساء: ١٠] الآية، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه. فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله، أو يفسد. فاشتد ذلك عليهم. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [البقرة: ٢٢٠] فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه. قيل: إنما خص تعالى مال
(١) أخرجه أبو داود في: الوصايا، ٧- باب مخالطة اليتيم في الطعام، حديث ٢٨٧١. [.....]