للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مستنبطه. ومنه استنباط الماء من أرض البئر والعين. ومن هذا

قول «١» عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد سئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟

فقال: لا، والذي فلق الحبة. وبرأ النسمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه!

ومعلوم أن هذا الفهم قدر زائد على معرفة موضوع اللفظ وعمومه أو خصوصه، فإن هذا قدر مشترك بين سائر من يعرف لغة العرب، وإنما هذا فهم لوازم المعنى ونظائره، ومراد المتكلم بكلامه، ومعرفة حدود كلامه، بحيث لا يدخل فيها غير المراد ولا يخرج منها شيء من المراد. وأنت إذا تأملت قوله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، وجدت الآية من أظهر الأدلة على نبوة النبيّ صلى الله عليه وسلم وأن القرآن جاء من عند الله وأن الذي جاء به روح مطهرة، فما للأرواح الخبيثة عليه سبيل. ووجدت الآية أخت قوله: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ [الشعراء: ٢١٠- ٢١١] ، ووجدتها دالة بأحسن الدلالة على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر، ووجدتها دالة أيضا بألطف الدلالة على أنه لا يجد حلاوته وطعمه إلا من آمن به، وعمل به، كما فهمه البخاري من الآية، فقال في صحيحه في باب قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها [آل عمران: ٩٣] ، لا يَمَسُّهُ لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن بالقرآن، ولا يحمله بحقه إلا المؤمن لقوله: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة: ٥] ، وتجد تحته أيضا لا ينال معانيه ويفهمه كما ينبغي، إلا القلوب الطاهرة، وإن القلوب النجسة ممنوعة من فهمه، مصروفة عنه. فتأمل هذا السبب القريب، وعقد هذه الأخوة بين هذه المعاني وبين المعنى الظاهر من الآية، واستنباط هذه المعاني كلها من الآية بأحسن وجه وأبينه. فهذا من الفهم الذي أشار إليه عليّ رضي الله عنه. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٨٠ الى ٨٢]

تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢)

تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أي الذي رباهم بالكمالات، وهداهم إليها بتنزيلها منه أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن الذي قص عليكم فخامة شأنه، وعظمة مقداره أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ قال ابن جرير: أي تلينون القول للمكذبين، ممالأة منكم لهم على التكذيب به والكفر. وأصل (الإدهان) - كما قال الشهاب- جعل الأديم ونحوه


(١) أخرجه البخاري في: الجهاد، ١٧١- باب فكاك الأسير، حديث ٩٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>