للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وروى ابن جرير بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال «١» : إن الرجل ليغدو بدينه ثم يرجع وما معه منه شيء. يلقى الرجل ليس يملك له نفعا ولا ضرّا فيقول له: والله! إنك لذيت وذيت فلعله أن يرجع ولم يحل من حاجته بشيء، وقد أسخط الله عليه، ثم قرأ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ... الآية وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا عطف على جملة قد حذفت، تعويلا على دلالة الحال عليها وإيذانا بأنها غنية عن الذكر. أي يعاقبون بتلك الفعلة القبيحة ولا يظلمون في ذلك العقاب فتيلا، أي أدنى ظلم وأصغره. والفتيل الخيط الذي في شق النواة أو ما يفتل بين الأصابع من الوسخ.

يضرب به المثل في القلة والحقارة. وقيل: التقدير، يثاب المزكون ولا ينقص من ثوابهم شيء أصلا. ولا يساعده مقام الوعيد. قاله أبو السعود.

[القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٥٠]]

انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠)

انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي في تزكيتهم أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وقولهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: ١١١] وقولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: ٨٠] واتكالهم على أعمال آبائهم الصالحة. وقد حكم الله أن أعمال الآباء لا تجزي عن الأبناء شيئا، في قوله: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ [البقرة: ١٣٤] . الآية.

قال العلامة أبو السعود: (كيف) نصب إما على التشبيه بالظرف أو بالحال.

والعامل (يفترون) وبه تتعلق (على) أي: في أي حال أو على أي حال يفترون عليه تعالى الكذب. والمراد بيان شناعة تلك الحال وكمال فظاعتها. والجملة في محل النصب بعد نزع الخافض و (النظر) متعلق بهما. وهو تعجيب إثر تعجيب. وتنبيه على أن ما ارتكبوه متضمن لأمرين عظيمين موجبين للتعجيب: ادعاؤهم الاتصاف بما هم متصفون بنقيضه. وافتراؤهم على الله سبحانه. فإن ادعاءهم الزكاء عنده تعالى متضمن لادعائهم قبول الله وارتضاءه إياهم. تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

ولكون هذا أشنع من الأول جرما، وأعظم قبحا لما فيه من نسبته سبحانه وتعالى إلى ما يستحيل عليه بالكلية من قبول الكفر وارتضائه لعباده، ومغفرة كفر الكافر وسائر معاصيه- وجّه النظر إلى كيفيته تشديدا للتشنيع وتأكيدا للتعجيب. والتصريح


(١) الأثر رقم ٩٤٧٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>