بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول. وقوله وَراءَ ظُهُورِهِمْ مثل لتركهم وإعراضهم عنه، مثّل بما يرمي به وراء الظهر استغناء عنه، وقلة التفاوت إليه. وقوله كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ جملة حالية، أي نبذوه وراء ظهورهم، مشبّهين بمن لا يعلمه. فإن أريد بهم أحبارهم، فالمعنى كأنهم لا يعلمونه على وجه الإيقان، ولا يعرفون ما فيه من دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم. ففيه إيذان بأن علمهم به رصين، لكنهم يتجاهلون. أو كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله، أو لا يعلمونه أصلا، كما إذا أريد بهم الكل. وفي هذين الوجهين، زيادة مبالغة في إعراضهم عما في التوراة من دلائل النبوة. وهذا، وإن أريد بما نبذوه من كتاب الله القرآن، فالمراد بالعلم المنفيّ في كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ هو العلم بأنه كتاب الله، ففيه ما في الوجه الأول من الإشعار بأنهم متيقنون في ذلك، وإنما يكفرون به مكابرة وعنادا، وقوله تعالى:
وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ، وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ هو حكاية لفن آخر من زيغهم وضلالهم، إثر نبذهم كتاب الله والعمل بما بين أيديهم. وهو اتباعهم لما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر والكفر، وإنه إنما نال ذلك الملك بسبب معرفته السحر. وزادوا على ذلك فنسبوه إلى الردة والكفر لأسباب افتروها عليه، فبرأه الله تعالى من هذا الافتراء والاختلاق، وألصق الكفر بأولئك الشياطين الذين يضللون العقول والأفهام بتعليم السحر والشعبذة، وإسناد التأثير إلى غير الخالق، سبحانه، والصد عن سبيل الحق، وابتغائهم إياها عوجا وتَتْلُوا بمعنى تقصّ وتحدث. من التلاوة، وهي القراءة. أو بمعنى تكذب وتختلق، وهو قول أبي مسلم، قال: يقال تلا عليه، إذا