وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ إعلام بأنه لما غرق أهل الأرض، ولم يبق ممن كفر بالله ديّار، أمر تعالى الأرض أن تبلغ ماءها الذي نبع منها، واجتمع عليها، وأمر السماء أن تقلع عن المطر، فنضب الماء، وقضي أمر الله بإنجاء من نجا، وإهلاك من هلك.
ولما أخذت المياه تتناقص وتتراجع إلى الأرض شيئا فشيئا، وظهرت رؤوس الجبال، استقرت السفينة على الجودي، وهو جبل بالجزيرة قرب الموصل.
و (بعدا) مصدر منصوب بمقدر، أي وبعدوا بعدا. يقال: بعد بعدا إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك، ولذلك اختص بدعاء السوء ك (جدعا) و (تعسا) و (اللام) متعلقة بمحذوف، أو للبيان، أو متعلقة ب (قيل) أي لأجلهم هذا القول.
والتعرض لوصف الظلم للإشعار بعلّيته للهلاك، ولتذكر ما سبق من قوله: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ.
[تنبيه:]
هذه الآية، بلغت من أسرار الإعجاز غايتها، وحوت من بدائع الفرائد نهايتها.
وقد اهتم علماء البيان لإيضاح نخب من لطائفها. ومن أوسعهم مجالا في معارفها، الإمام السكاكي، فقد أطال وأطاب في كتابه (المفتاح) وتلطف في التبيان بألطف من نسيم الصباح، ونحن نورده بتمامه، لنعطر الألباب بعرف مبتدئه ومسك ختامه.
قال عليه الرحمة في بحث (البلاغة والفصاحة) وتعريفه الأولى بأنها بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حدا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها، ثم تقسيمه الفصاحة إلى ما يرجع إلى المعنى، وهو خلوص الكلام عن التعقيد. وإلى اللفظ وهو كونه عربيا أصليا، جاريا على قوانين اللغة، أدور على ألسنة الفصحاء، أكثر في الاستعمال، ما صورته: