وإذ قد وقفت على البلاغة، وعثرت على الفصاحة المعنوية واللفظية، فأنا أذكر على سبيل الأنموذج، آية أكشف لك فيها عن وجوه البلاغة والفصاحتين، ما عسى يسترها عنك. ثم إن ساعدك الذوق، أدركت منها ما قد أدرك من تحدّوا بها وهي قوله، علت كلمته: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ... إلى الظَّالِمِينَ.
والنظر في هذه الآية من أربع جهات من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة، ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية.
أما النظر فيها من جهة علم البيان، وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها فنقول: إنه عز سلطانه، لما أراد أن يبين معنى: أردنا أن نردّ ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان السماء، فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من الماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح، وهو إنجاز ما كنا وعدنا من إغراق قومه فقضي، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت. وأبقينا الظّلمة غرقى بنى الكلام على تشبيه المراد بالأمور الذي لا يتأتى منه، لكمال هيبته، العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكوّن المقصود، تصويرا لاقتداره العظيم، وأن السموات والأرض وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته، وإيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون، قد عرفوه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مواده، وتصورا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته كان المشار إليه مقدما. وكما يرد عليهم أمره كان المأمور به متمما. لا تلقّي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال. ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام، فقال جلّ وعلا: وَقِيلَ على سبيل المجاز- أي المرسل- عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد وهو: يا أرض ويا سماء! ثم قال كما ترى: يا أرض ويا سماء، مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور. ثم استعار لغؤور الماء في الأرض البلع، الذي هو إعمال الجاذبة فبي المطعوم، للشبه بينهما، وهو الذهاب إلى مقرّ خفي، ثم استعار الماء للغذاء، استعارة بالكناية، تشبيها له بالغذاء، لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار، تقوّي الآكل بالطعام، وجعل قرينة الاستعارة لفظة (ابلعي) لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء، ثم أمر