وممن فسّر الْمِيزانَ في الآية بالعدل، مجاهد، وتبعه ابن جرير، وكذا ابن كثير، ونظر لذلك بآية لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: ٢٥] ، وجوّز أن يراد بالميزان ما يعرف به مقادير الأشياء من ميزان ومكيال ونحوهما. ومنه قال السيوطيّ في (الإكليل) : فيه وجوب العدل في الوزن، وتحريم البخس فيه. وعليه، فوجه اتصال قوله وَوَضَعَ الْمِيزانَ بما قبله، هو أنه لما وصف السماء بالرفعة التي هي مصدر القضايا والأقدار، أراد وصف الأرض بما فيها، مما يظهر به التفاوت، ويعرف به المقدار، ويسوّى به الحقوق والمواجب- كذا ارتآه القاضي- والله أعلم وفي الحقيقة، الثاني من أفراد الأول، وأخذ اللفظ عامّا أولى وأفيد.
ومن اللطائف التي يتسع لها نظم الآية الكريمة قول الرازيّ: الْمِيزانَ ذكر ثلاث مرات، كل مرة بمعنى. فالأول: هو الآلة. والثاني: بمعنى المصدر. والثالث:
للمفعول. قال: وهو كالقرآن، ذكر بمعنى المصدر في قوله تعالى: فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
[القيامة: ١٧] ، وبمعنى الكتاب الذي فيه المقروء في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرعد: ٣١] ، فكأنه آلة ومحل له، وفي قوله تعالى: آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: ٨٧] . ثم قال: وبين القرآن والميزان مناسبة، فإن القرآن فيه من العلم ما لا يوجد في غيره من الكتب. والميزان فيه من العدل ما لا يوجد في غيره من الآلات. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ١٠ الى ١٣]
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ أي مهّدها للخلق فِيها فاكِهَةٌ أي صنوف مما يتفكّه به وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ أي أوعية الطلع، وهو الذي يطلع فيه العنقود، ثم ينشقّ عن العقود فيكون بسرا، ثم رطبا. ثم ينضج ويتناهى نفعه واستواؤه. وإنما أفردها بالذكر، لما فيها من الفوائد العظيمة، على ما عرف من اتخاذ الظروف منها، والانتفاع بجمّارها وبالطلع والبسر والرطب وغير ذلك. فثمرتها في أوقات مختلفة كأنها ثمرات مختلفة، فهي أتم نعمة بالنسبة إلى غيرها من الأشجار، فلذا ذكر النخل باسمه، وذكر الفاكهة دون أشجارها، فإن فوائد أشجارها في عين ثمارها. وَالْحَبُّ