للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أن يستوفى له في دار العدل. قالوا: فما استوفاه الوارث فإنما استوفى محض حقه الذي خيره الله، من استيفائه والعفو عنه. وما ينفع المقتول من استيفاء وارثه؟ وأي استدراك لظلامته حصل له باستيفاء وارثه؟ وهذا أصح القولين في المسألة. إن حق المقتول لا يسقط باستيفاء الوارث. وهي وجهان لأصحاب الشافعيّ وأحمد وغيرهما. ورأت طائفة أنه يسقط بالتوبة واستيفاء الوارث. فإن التوبة تهدم ما قبلها.

والذنب الذي قد جناه قد أقيم عليه حده. قالوا: وإذا كانت التوبة تمحو أثر الكفر والسحر، وهما أعظم إثما من القتل، فكيف تقصر عن محو أثر القتل؟ وقد قبل الله توبة الكفار الذين قتلوا أولياءهم، وجعلهم من خيار عباده. ودعا الذين أحرقوا أولياءه وفتنوهم عن دينهم ودعاهم إلى التوبة.

وقال تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً. وهذا في حق القاتل. وهي تتناول الكفر فيما دونه.

قالوا: وكيف يتوب العبد من الذنب ويعاقب عليه بعد التوبة؟ هذا معلوم انتفاؤه في شرع الله وجزائه. قالوا: وتوبة هذا المذنب تسليم نفسه، ولا يمكن تسليمها إلى المقتول. فأقام الشارع وليّه مقامه. وجعل تسليم النفس إليه كتسليمها إلى المقتول، بمنزلة تسليم المال الذي عليه لوارثه. فإنه يقوم مقام تسليمه للموروث. والتحقيق في المسألة أن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق: حق لله، وحق للمظلوم المقتول، وحق للوليّ. فإذا سلّم القاتل نفسه طوعا واختيارا إلى الوليّ، ندما على ما فعل، وخوفا من الله، وتوبة نصوحا- فقطع حق الله بالتوبة، وحق الوليّ بالاستيفاء أو الصلح أو العفو، وبقي حق المقتول يعوضه الله عنه يوم القيامة عن عبده التائب المحسن، ويصلح بينه وبينه، فلا يبطل حق هذا ولا تبطل توبة هذا.

[فصل]

ومن العلماء من اختار التوقف في هذا المقام. منهم الإمام أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليمانيّ. فإنه قال في كتابه (إيثار الحق) في (بحث الوعد والوعيد) . ما نصه: لا شك أن الاستثناء من الوعد والوعيد، وتخصيص العمومات بالأدلة المتصلة والمنفصلة مقبول. إما على جهة الجمع، ولا شك في جوازه وصحته وحسنه، والإجماع على ذلك وكثرة وقوعه من سلف الأمة وخلفها. بل لا شك في تقديمه في الرتبة والبداية بذلك قبل الترجيح. فإن تعذر الجمع فالترجيح. فإن وضح عمل به.

فإن لم يتضح وجب الوقف لقوله تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>