وإسنادها إلى المؤمنين، لإيجاب التوكل على المخاطبين بالطريق البرهانيّ، وللإيذان بأن ما وصفوا به عند الخطاب من وصف الإيمان، داع إلى ما أمروا به من التوكل والتقوى، وازع عن الإخلال بهما.
[بحث جليل في التوكل]
قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية- قدس الله سرّه- في بعض مصنّفاته:
قد ظنّ طائفة ممن تكلم في أعمال القلوب، أن التوكل لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة. بل ما كان مقدرا بدون التوكل، فهو مقدر مع التوكل. ولكن التوكل عبادة يثاب عليها من جنس الرضا بالقضا. وذكر ذلك أبو عبد الله بن بطة فيما صنفه في هذا الباب. وقول هؤلاء يشبه قول من قال: إن الدعاء لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة. بل هو عبادة يثاب عليها كرمي الجمار، وآخرون يقولون: بل الدعاء علامة وأمارة. ويقولون ذلك في جميع العبادات، وهذا قول من ينفي الأسباب في الخلق والأمر، ويقول: إن الله يفعل عندها، لا بها. وهو قول طائفة من متكلمي أهل الإثبات للقدر- كالأشعريّ وغيره، وهو قول طائفة من الفقهاء والصوفية. وأصل هذه البدعة من قول جهم. فإنه كان غاليا في نفي الصفات وفي الجبر، فجعل من تمام توحيد الذات نفي الصفات، ففي تمام توحيد الأفعال نفي الأسباب. حتى أنكر تأثير قدرة العبد، بل نفى كونه قادرا، وأنكر الحكمة في التوكل والرحمة. وكان يخرج إلى الجذمي فيقول: أرحم الراحمين يفعل مثل هذا؟ يعني أنه يفعل بمحض المشيئة بلا رحمة. وقوله في القدر، قد تقرب إليه الأشعريّ ومن وافقه من الطوائف. والذي عليه السلف والأئمة والفقهاء والجمهور وكثير من أهل الكلام إثبات الأسباب. كما دلّ على ذلك الكتاب والسنة، مع دلالة الحسّ والعقل. والكلام على هؤلاء مبسوط في مواضع أخر. والمقصود هنا الكلام على التوكل. فإن الذي عليه الجمهور أن المتوكل يحصل له بتوكله، من جلب المنفعة ودفع المضرة، ما لا يحصل لغيره. وكذلك الدعاء. والقرآن يدل على ذلك في مواضع كثيرة. ثم هو سبب عند الأكثرين، وعلامة عند من ينفي الأسباب: قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: ٢- ٣] . والحسب:
الكافي. فبيّن أنه كاف من توكل عليه. وفي الدعاء: يا حسيب المتوكلين! فلا يقال: هو حسب غير المتوكل كما هو حسب المتوكل، لأنه علق هذه الجملة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط، فيمتنع في مثل ذلك أن يكون وجود الشرط