فلم يلعنوا. أو على الوصفية لمصدر محذوف. أي: إلا إيمانا قليلا أي ضعيفا ركيكا لا يعبأ به. فإنهم كانوا يؤمنون بالله والتوراة وموسى، ويكفرونه ببقية المرسلين وكتبهم المنزلة. ورجّح أبو علي الفارسيّ هذا. قال: لأن قَلِيلًا لفظ مفرد: ولو أريد به (ناس) لجمع نحو قوله: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ [الشعراء: ٥٤] .
ويمكن أن يجاب عنه بأنه قد جاء فعيل مفردا. والمراد به الجمع قال تعالى:
وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: ٦٩] . وقال: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [المعارج: ١٠] يبصرونهم. أفاده الرازيّ. وقد جوز على هذا أن يراد بالقلة العدم بالكلية. كقوله:
قليل التشكي للمهم يصيبه ... كثير الهوى شتى النوى والمسالك
أي هو كثير الهم مختلف الوجوه والطرق لا يقف أمله على فن واحد بل يتجاوزه إلى فنون مختلفة. صبور على النوائب لا يكاد يتشكى منها. فاستعمل لفظ (قليل) وأراد به نفي الكل. أو منصوب على الاستثناء من فاعل (لا يؤمنون) أي:
فلا يؤمن منهم إلا نفر قليل. وأما قول الخفاجيّ: كان الوجه فيه الرفع على البدل لأنه من كلام غير موجب. وأبي السعود: بأنه فيه نسبة القراء إلى الاتفاق على غير المختار- فمردود بأن النصب عربيّ جيد. وقد قرئ به في السبع في (قليل) من قوله تعالى: ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء: ٦٦] وفي (امرأتك) من قوله تعالى:
وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ [هود: ٨١] كما قاله ابن هشام في التوضيح.
[القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٤٧]]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٤٧)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا يعني القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ أي موافقا للتوراة مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً أي نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم. وقال العوفيّ عن ابن عباس: طمسها أن تعمى فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أي فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء مطموسة مثلها جزاء على الكفر.
فالفاء للتسبيب. أو ننكسها بعد الطمس فنردها إلى موضع الأقفاء والأقفاء إلى موضعها. وقد اكتفى بذكر أشدهما. فالفاء للتعقيب.