قال الرازيّ: وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه في الخلقة والمثلة والفضيحة. لأن عند ذلك يعظم الغم والحسرة أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ أي: أو نفعل بهم أبلغ من ذلك. وهو أن نطردهم عن الإنسانية بالمسخ الكليّ جزاء على اعتدائهم بترك الإيمان. كما أخزينا به أوائلهم أصحاب السبت جزاء على اعتدائهم على السبت بالحيلة على الاصطياد. فمسخناهم قردة وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ أي ما أمر به مَفْعُولًا أي نافذا كائنا لا محالة. هذا وفي الآية تأويل آخر.
وهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه. وهو صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبيل الضلالة. يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم.
قال ابن كثير: وهذا كما قال بعضهم في قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس: ٨- ٩] : أي هذا مثل سوء ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى. قال مجاهد: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً، يقول: عن صراط الحق. فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أي في الضلال. قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عباس والحسن نحو هذا. قال السديّ: فنردّها على أدبارها: فنمنعها عن الحق، نرجعها كفارا.
قال الرازيّ: والمقصود على هذا بيان إلقائها في أنواع الخذلان وظلمات الضلالات. ونظيره قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال: ٢٤] . تحقيق القول فيه أن الإنسان في مبدأ خلقته ألف هذا العالم المحسوس. ثم إنه عند الفكر والعبودية كأنه يسافر من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات. فقدامه عالم المعقولات، ووراءه عالم المحسوسات. فالمخذول هو الذي يرد عن قدامه إلى خلفه. كما قال تعالى في صفتهم: ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ [السجدة: ١٢] .
ثم قال الرازيّ: قال عبد الرحمن بن زيد: هذا الوعيد قد لحق اليهود ومضى.
وتأول ذلك في إجلاء قريظة والنضير إلى الشام. فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى أذرعات وأريحاء، من أرض الشام. كما جاءوا منها و (طمس الوجوه) على هذا التأويل يحتمل معنيين: أحدهما- تقبيح صورتهم. يقال: طمس الله صورته،