قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى أي فاز وظفر من تطهر من دنس الشرك والمعاصي، وعمل بما أمره الله به وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى أي تذكر جلال ربه وعظمته، فخشع وأشفق وقام بما له وعليه، كقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: ٢] ، وجوز أن يحمل تَزَكَّى على إيتاء الزكاة و (صلى) على إقامة الصلاة، كآية: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: ١٤] ، لما عهد في كلامه تعالى من الجمع بينهما في عدة آيات، لأنهما مبدأ كل خير وعنوان السعادة. لكن قيل عليه، بأن المعهود في التنزيل الكريم تقديم الصلاة. وأجيب بأنه لا ضير في مخالفة العادة، مع أن الجاري تقديمها إذا ذكرت باسمها. أما إذا ذكرت بفعل مأخوذ منها، فلا كقوله: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [القيامة: ٣١] . والأول أظهر، لأنه أشمل وأعمّ. وهو أكثر فائدة.
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا قال أبو السعود: إضراب عن مقدر ينساق إليه الكلام. كأنه قيل، إثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح: لا تفعلون ذلك بل تؤثرون اللذات العاجلة الفانية فتسعون لتحصيلها. والخطاب إما للكفرة، فالمراد بإيثار الحياة الدنيا هو الرضا والاطمئنان بها، والإعراض عن الآخرة بالكلية، كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها [يونس: ٧] الآية، أو للكل، فالمراد بإيثارها ما هو أهم مما ذكر، وما لا يخلو عنه الإنسان غالبا من ترجيح جانب الدنيا على الآخرة. في السعي وترتيب المبادئ. والالتفات على الأول لشديد التوبيخ. وعلى الثاني كذلك في حق الكفرة، وتشديد العتاب في حق المسلمين.
وقرئ (يؤثرون) بالياء وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى أي أفضل، لخلوصها عما يكدر. وأدوم لعدم انصرام نعيمها. والجملة حال من فاعل تُؤْثِرُونَ مؤكدة للتوبيخ والعتاب إِنَّ هذا أي ما ذكر في قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى أو ما في السورة كلها لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى أي ثابت فيها معناه صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى بدل من (الصحف الأولى) وفي إبهامها ووصفها بالقدم، ثم بيانها وتفسيرها، من تفخيم شأنها، ما لا يخفى.