والمقلد، لولا اغتراره بكونه وجد آباءه على ذلك المذهب، مع اعتقاده بأنه الذي أمر الله به، وأنه الحق- لم يبق عليه. وهذه الخصلة هي التي بقي بها اليهوديّ على يهوديته، والنصراني على نصرانيته، والمبتدع على بدعته. فما أبقاهم على هذه الضلالات إلا كونهم وجدوا آباءهم في اليهودية والنصرانية والبدعة، وأحسنوا الظن بهم بأن ما هم عليه هو الحق الذي أمر الله به، ولم ينظروا لأنفسهم ولا طلبوا الحق كما يجب، ولا بحثوا عن الله كما ينبغي. وهذا هو التقليد البحت، والقصور الخالص. ثم قال: وإن من أعجب الغفلة وأعظم الذهول عن الحق، اختيار المقلدة لآراء الرجال، مع وجود كتاب الله ووجود سنة رسوله بين ظهرانيهم، ووجود من يأخذونهما عنه بين أيديهم، ووجود آلة الفهم لديهم، وملكة العقل عندهم- انتهى-.
ولما نفى ما تقوّلوه عليه، وأخبر أنه لا يأمر بالفحشاء، بيّن ما أمر به بقوله تعالى:
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ أي: بالعدل. وللسلف فيه هنا وجوه: ما ظهر في العقول كونه حسنا، أو التوحيد، أو كلمة الإخلاص. وعن أبي مسلم: جميع الطاعات. قال الحاكم: وهو الوجه: ولا يخفى أن الجميع مما يشمله (القسط) فلا منافاة. وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ معطوف على الأمر الذي ينحلّ إليه المصدر مع (أن) . أي: بأن أقسطوا وأقيموا، والمصدر ينحل إلى الماضي والمضارع والأمر، كما نقله المعرب. أو معطوف على أَمَرَ رَبِّي أي: قل أقيموا. قال الجرجانيّ: الأمر معطوف على الخبر، لأن المقصود لفظه، أو لأنه إنشاء معنى.
انتهى- و (الوجوه) مجاز عن الذوات. ومسجد إما مصدر، والوقت مقدر قبله، و (عند) بمعنى (في) . أي: أقيموا ذواتكم في كل وقت سجود، وذلك بمنعها عن الالتفات إلى الغير فيه، وبمراعاة موافقة الأمر مع صدق النية، أو باستقبال القبلة فيه.
وإما اسم زمان أو مكان بالمعنى اللغوي، أي في كل وقت سجود أو مكانه. والسجود على هذه الأوجه مجاز عن الصلاة، أو المسجد هو المصطلح عليه. والمعنى: في أيّ