وفي قوله تعالى مِنْ أَنْفُسِهِمْ وجه آخر من المنة، وذلك أنه صار شرفا للعرب، وفخرا لهم، كما قال سبحانه: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [الزخرف: ٤٤] . وذلك لأن الافتخار بإبراهيم عليه السلام كان مشتركا فيه بين اليهود والنصارى والعرب، ثم إن الأولين كانوا يفتخرون بموسى وعيسى والتوراة والإنجيل.
فما كان للعرب ما يقابل ذلك. فلما بعث الله محمدا، وأنزل عليه القرآن، صار شرف العرب ذلك زائدا على شرف جميع الأمم.
ثم كرر عليهم سبحانه أن هذا القول أصابهم إنما أتوا فيه من قبل أنفسهم وبسبب أعمالهم فقال:
[القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٥]]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا الهمزة للتقريع والتقرير، والواو عاطفة للجملة على ما سبق من قصة أحد، أو على محذوف مثل: أفعلتم كذا وقلتم. و (لما) ظرفه المضاف إلى أصابتكم، أي حين أصابتكم مصيبة، وهي قتل سبعين منكم يوم أحد، والحال أنكم نلتم ضعفيها يوم بدر من قتل سبعين منهم وأسر سبعين: من أين هذا أصابنا وقد وعدنا الله النصر قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أي مما اقترفته أنفسكم من مخالفة الأمر بترك المركز، فإن الوعد كان مشروطا بالثبات والمطاوعة. قال ابن القيم: وذكر سبحانه هذا بعينه فيما هو أعم من ذلك في السورة المكية فقال: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: ٣٠] . وقال: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء: ٧٩] فالحسنة والسيئة هاهنا النعمة والمصيبة، فالنعمة من الله منّ بها عليك، والمصيبة إنما نشأت من قبل نفسك وعملك، فالأول فضله، والثاني عدله، والعبد يتقلب بين فضله وعدله، جار عليه فضله، ماض فيه حكمه، عدل فيه قضاؤه. وختم الآية الأولى بقوله إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ بعد قوله: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ. إعلاما لهم بعموم قدرته مع عدله، وأنه عادل قادر، وفي ذلك إثبات القدر والسبب. فذكر السبب وأضافه إلى نفوسهم، وذكر عموم القدرة وأضافها إلى نفسه، فالأول ينفي الجبر، والثاني ينفي القول بإبطال القدر، فهو شاكل قوله: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [التكوير: ٢٨- ٢٩] . وفي