وقال الناصر: هذا الإضراب في بابه مثل الغاية التي قدمتها آنفا في بابها، فإنه انتقال إلى موافق، لكنه أزيد من الأول، فنزل لزيادته عليه، مع ما تقدمه مما ينقص عنه، منزلة المتنافيين، كالنفي والإثبات اللذين يضرب عن أحدهما للآخر. وذلك أن نسبتهم للآيات إلى أنها مفتريات، أشدّ وأبعد من نسبتها إلى أنها سحر. فأضرب عن ذلك الأول إلى ذكر ما هو أغرب منه. انتهى.
هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ أي: تخوضون في حقه من أنه سحر أو إفك كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي: يشهد لي بالصدق بما يؤيدني به من آياته وصدق مواعيده وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي: لمن راجع منكم الكفر وتاب وآمن.
قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩)
قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ أي: ما كنت أول رسل الله التي أرسلها إلى خلقه. قد كان من قبلي له رسل كثيرة أرسلت إلى أمم قبلكم، فلم تستنكرون بعثتي، وتستبعدون رسالتي، كقوله: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: ١٤٤] ، و (البدع) كالبديع، بمعنى الجديد المبتدأ. قال ابن جرير: ومن البدع قول عديّ بن زيد:
فلا أنا بدع من حوادث تعتري ... رجالا عرت من بعد بؤسى وأسعد
ومن البديع قول الأحوص:
فخرت فانتمت فقلت: ذريني ... ليس جهل أتيته ببديع
وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ قال أبو السعود: أي: أيّ شيء يصيبنا فيما يستقبل من الزمان، من أفعاله تعالى، وماذا يقدّر لنا من قضاياه. وعن الحسن رضي الله عنه: ما أدري ما يصير إليه أمري، وأمركم في الدنيا. وقيل: يجوز أن يكون المنفي هو الدراية المفصلة. والأظهر أن (ما) عبارة عما ليس علمه من وظائف النبوة من الحوادث والواقعات الدنيوية، دون ما سيقع في الآخرة، فإن العلم بذلك من وظائف النبوة، وقد ورد به الوحي الناطق بتفاصيل ما يفعل بالجانبين. انتهى.
وهذا الأظهر يقرب من قول الحسن. وهو ما عول عليه ابن جرير. قال ابن كثير: بل لا يجوز غيره. كيف؟ وهو صلّى الله عليه وسلّم جازم بأنه صائر إلى الجنة، هو ومن اتبعه