يستحيل تواطؤهم على الكذب، وأصلهم الذي ينقلون عنه كذلك، لكن أصلهم لم يباشر ذلك الأمر المحسوس، بل ينقل عن غيره أيضا، فأصل ذلك الأصل يجب أن يكون عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب أيضا. لما تقدم. وفي هذه الصورة حصل طرفان وواسطة. فالطرفان المخبر لنا. والمباشر الأول الواسطة الذي بينهما.
فيجب استواء الطرفين والواسطة. والوسائط تكثرت في كونهم عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب. فينقسم، بهذا التحرير، التواتر إلى طرف فقط، وإلى طرفين بلا وساطة، وإلى طرفين وواسطة. والثلاثة أقسام مشتركة في هذا الشرط. فإذا تقرر حقيقة التواتر فنقول: الحس إنما يتعلق بأن هذا مصلوب على هذه الخشبة. وأما أنه عيسى عليه السلام نفسه أو غيره، فهذا لا يفيده الحس البتة. بل إنما يعلم بقرائن الأحوال إن وجدت، أو بأخبار الأنبياء عليهم السلام عن الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علما.
وأحصى كل شيء عددا. والذي يدل على أن الحس لا يفرق بين المتماثلات، أنا لو وضعنا في إناء رطلا من الماء مثلا. وأريناه لإنسان، ثم رفعنا ذلك الماء ووضعنا فيه رطلا آخر من ذلك الماء ثم أريناه ذلك الإنسان. وقلنا له: هذا الماء هو عين الماء الأول أو مثله؟ فإنه إذا أنصف يقول: الذي أدركه بحسّي أن هذا ماء بالضرورة. أما أنه عين الأول أو غيره مماثلا له، فلا أعلم. لكون الحس لا يحيط بذلك. هذا في المائعات. وكذلك كفّ من تراب أو أوراق الأشجار أو أنواع الحبوب. كالحنطة مثلا. إذا أخذ منها حفنتان ونحو ذلك. وكذلك الحيوانات الوحشية والطيور شديدة الالتباس على الحس. إذا اتحد النوع في اللون والسن والغلظ. وإنما كثرت الفروق في الحيوانات الإنسية كالفرس ونحوها.
[مطلب:]
وسر ذلك أن أسباب النشأة في الوحشية مشتركة بالمياه والمراعي والبراري.
والحيوان الإنسيّ يختلف ذلك فيه، بحسب مقتنيه، اختلافا كثيرا. فينشأ بحسب دواعي بني آدم في السعة والضيق، وإيثار نوع من العلف على غيره، ومكان مخصوص على غيره، وإلزام الحيوان أنواعا من الأعمال والرياضة دون غيرها، فيختلف الحيوان الإنسيّ بحسب ذلك. ثم يتصل ذلك بالنّطف في التوليد، مضافا إلى ما يحصل للولد من داعية مريبة فيعظم الاختلاف. والحيوان الوحشيّ سلم عن جميع ذلك.
فتشابهت أفراد نوعه. ولا يكاد الحس يفرق بين اثنين منه البتة. فإذا تقرر أن الحس لا سلطان له على الفرق بين المثلين، ولا التمييز بين الشيئين، فيجب القطع أن كون المصلوب هو خصوص عيسى عليه السلام دون شبهه أو مثله- ليس مدركا بالحس.