وإذا لم يكن مدركا بالحس، جاز أن يخرق الله تعالى العادة لعيسى عليه السلام شبهه في غيره. كما خرق له العادة في إحيائه الموتى وغيره. ثم يرفعه ويصونه عن إهانة أعدائه. وهو اللائق بكريم آلائه. في إحسانه لخاصة أنبيائه وأوليائه وإذا جوز العقل مثل هذا مع أن الحس لا مدخل له في ذلك، بقي إخبار القرآن الكريم عن عدم الصلب سالما عن المعارض. مؤيدا بكل حجة. وسقط السؤال بالكلية. وثانيها- سلمنا أن الحس يتعلق بالتفرقة بين المثلين. والتمييز بين الشبهين. لكن لا نسلم أن العدد المباشر للصلب كانوا بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب. ويدل على أنهم ليسوا كذلك، أن الحواريين فرّوا عنه. لأنه لو وجد أحد منهم لقتله اليهود. فحينئذ عدد التواتر متعذر من جهة شيعة النصارى عن أسلافهم. لا يفيد علما بل هو ظن وتخمين لا عبرة به. لذلك قال الله سبحانه في قرآنه المبين: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ. أي: هم لا يتيقنون ذلك. بل يحزرون بالظن والتخمين. وأما من جهة الملة اليهودية، فلأن المباشر منهم للصلب إنما هو الوزعة وأعوان الولاة. وذلك في مجرى العادة يكون نفرا قليلا. كالاثنين أو الثلاثة ونحوها. يجوز عليهم الكذب ولا يفيد خبرهم العلم بكون العادة وخرج الصلب عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب يفتقر إلى نقل متواتر. فإنه لو وقع ونقل بأخبار الآحاد لم يحصل لنا علم بالصلب. فإن المتواترات إذا نقلت بأخبار الآحاد، سقط اعتبارها في إفادة العلم.
لجواز كذب الناقل. فلا يكون عدد التواتر حاصلا في نفس الأمر. والنصارى واليهود إنما يعتمدون على التوراة والإنجيل. ولا يوجد يهوديّ ولا نصرانيّ على وجه الأرض يروي التوراة والإنجيل، عدلا عن عدل، إلى موسى وعيسى عليهما السلام. وإذا تعذرت عليهم رواية العدل عن العدل، فأولى أن يتعذر التواتر. ولم يبق في الكتابين إلا أخبار وتواريخ بعيدة الزمان جدا. بحيث إن التواريخ الإسلامية أصح منها، لقرب عهدها. مع أنه لا يجوز الاعتقاد في فروع الديانات على شيء من التواريخ. فضلا عن أصول الأديان. وإذا ظهر أن مستند هاتين الأمتين العظيمتين في العدد، في غاية الضعف- كانت أخبارها في نفسها في غاية الضعف. لأن الفرع لا يزيد على أصله.
وثالثها- أن نصوص الإنجيل مشعرة بعدم صلب عيسى عليه السلام بخصوصه. كما نقلنا بعضها آنفا.
وقال في (تخجيل الأناجيل) : فيقال للنصارى: ما ادعيتموه من قتل المسيح وصلبه، أتنقلونه تواترا أم آحادا؟ فإن زعموا أنه آحاد لم يقم بذلك حجة، ولم يثبت العلم الضروريّ. إذ الآحاد لم يأمن عليهم فيها السهو والغفلة والتواطؤ على الكذب.