وبدلائل الآخرة والنبوة كذلك، ولما كان الباقي عندهم من شرائع الأنبياء شيء من شريعة إبراهيم عليه السلام، أبيهم، خوطبوا من تلك الجهة ودعوا إليها، وأن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هي تلك بعينها كقوله تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا [الحج: ٧٨] وقوله: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا.. [آل عمران: ٦٧] الآية- غير أنهم غيروا جملة منها وزادوا واختلفوا.
فجاء تقويمها من جهة محمد صلى الله عليه وسلم. وأخبروا بما أنعم الله عليهم مما هو لديهم وبين أيديهم، وأخبروا عن نعيم الجنة وأصنافه بما هو معهود في تنعماتهم في الدنيا، لكن مبرأ من الغوائل والآفات التي تلازم التنعيم الدنيويّ. كقوله: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ....
[الواقعة: ٢٧- ٣٠] إلى آخر الآيات- وبيّن من مأكولات الجنة ومشروباتها ما هو معلوم عندهم. كالماء واللبن والخمر والعسل والنخيل والأعناب وسائر ما هو عندهم مألوف، دون الجوز واللوز والتفاح والكمثرى وغير ذلك من فواكه الأرياف وبلاد العجم. بل أجمل ذلك في لفظ الفاكهة. وقال تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: ١٢٥] فالقرآن كله حكمة، وقد كانوا عارفين بالحكمة، وكان فيهم حكماء، فأتاهم من الحكمة بما عجزوا عن مثله. وكان فيهم أهل وعظ وتذكير، كقس بن ساعدة وغيره. ولم يجادلهم إلا على طريقة ما يعرفون من الجدل. ومن تأمل القرآن وتأمل كلام العرب في هذه الأمور الثلاثة وجد الأمر سواء. إلا ما اختص به كلام الله من الخواص المعروفة. وسرّ في جميع ملابسات العرب هذا السير تجد الأمر كما تقرر. وإذا ثبت هذا وضح أن الشريعة أميّة لم تخرج عما ألفته العرب.
ثم قال الشاطبيّ:«المسألة الرابعة»
ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها، وهم العرب، ينبني عليه قواعد: منها- أن كثيرا من الناس تجاوزوا، على الدعوى في القرآن، الحدّ.
فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها. وهذا، إذا عرضناه على ما تقدم، لم يصح.
إلى هذا، فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف