وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى أي مرّة أخرى من النزول، وتأكيد الخبر عن الرؤية الثانية هذه، لنفي الريبة والشك عنها أيضا. وأنه لم يكن فيها التباس واشتباه. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى أي موضع الانتهاء، أو الانتهاء. ف (المنتهى) : اسم مكان، أو مصدر ميميّ. وقد جاء في الصحيح أنها شجرة نبق في السماء السابعة، إليها ينتهي ما يعرج به من أمر الله من الأرض، فيقبض منها. وما يهبط به من فوقها، فيقبض منها.
قال القاضي: ولعلها شبهت بالسدرة، وهي شجرة النبق، لأنهم يجتمعون في ظلها. يعني أن شجر النبق يجتمع الناس في ظله، وهذه يجتمع عندها الملائكة، فشبهت بها، وسميت (سدرة) لذلك. فإطلاقها عليها بطريق الاستعارة. لكن ورد في الحديث أن كل نبقة فيها كقلة من قلال هجر، فهي على هذا حقيقة، وهو الأظهر- قاله الشهاب-.
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى أي التي يأوي إليها أرواح المقرّبين. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى قال القاشانيّ: أي من جلال الله وعظمته. معناه أنه رأى جبريل عليه السلام عند سدرة المنتهى حينما كانت الأرواح والملائكة تغشاها، وتهبط عليها، وتحف من حولها. ما زاغَ الْبَصَرُ أي ما مال بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما رآه. وَما طَغى أي ما تجاوز مرئيّة المقصود له، بل أثبت ما رآه إثباتا مستيقنا صحيحا لا شبهة فيه.
وفيه وصف لأدبه صلى الله عليه وسلم وتمكّنه، إذ لم يتجاوز ما أمر برؤيته. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى يعني الملك الذي عاينه وأخبره برسالته. وفيه غاية التفخيم لمقامه، وأنه من الآيات الكبر.
قال الناصر: ويحتمل أن تكون الْكُبْرى صفة لآيات، ويكون المرئيّ محذوفا لتفخيم الأمر وتعظيمه، كأنه قال: لقد رأى من آيات ربّه الكبرى أمورا عظاما لا يحيط بها الوصف. والحذف في مثل هذا أبلغ وأهول.
[تنبيهات:]
الأول- قدمنا في تفسير قوله تعالى: فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ما قاله المفسرون من الأقوال العديدة. ولا يخفى ما في بعضها من التكلف والتعسف، كتوجيه ابن جرير والرازيّ ومن وافقهما، وبعض أقوال حكاها القرطبيّ. والأقرب في معنى الآية ما ذكره الإمام ابن كثير، كما نقلناه عنه، لكثرة الأحاديث الواردة فيما يفسرها بذلك ونحن نقول في تأييده إن القرآن يفسر بعضه بعضا، لتشابه آياته الكريمة وتماثلها. والآية هذه مشابهة لما في سورة التكوير تمام المشابهة، فقد قال