لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ أي بالحجج والبراهين القاطعة على صحة ما يدعون إليه وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ أي التامّ في الحكم والأحكام وَالْمِيزانَ أي العدل- قاله مجاهد وقتادة وغيرهما- قال ابن كثير: وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة، المخالفة للآراء السقيمة لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي بالحق والعدل، وهو اتباع الرسل فيما أمروا به، وتصديقهم فيما أخبروا عنه، فإن الذي جاءوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق، كما قال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الأنعام: ١١٥] . أي صدقا في الأخبار، وعدلا في الأوامر والنواهي، ولهذا يقول المؤمنون، إذا تبوأوا غرف الجنات الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ [الأعراف: ٤٣] . وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ يعني القتال به، فإن آلات الحروب متخذة منه وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أي في مصالحهم ومعايشهم، فما من صناعة إلا وللحديد يد فيها.
فإن قيل: الجمل المتعاطفة لا بد فيها من المناسبة، وأين هي في إنزال الحديد مع ما قبله؟
فالجواب: أن بينهما مناسبة تامة، لأن المقصود ذكر ما يتم به انتظام أمور العالم في الدنيا، حتى ينالوا السعادة في الأخرى. ومن هداه الله من الخواص العقلاء ينتظم حاله في الدارين بالكتب والشرائع المطهرة. ومن أطاعهم وقلدهم من العامة بإجراء قوانين الشرع العادلة بينهم. ومن تمرد وطغا وقسا يضرب بالحديد، الرادّ لكل مريد. وإلى الأولين أشار بقوله: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ فجمعهم وأتباعهم في جملة واحدة. وإلى الثالث أشار بقوله: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فكأنه قال: أنزلنا ما يهتدي به الخواصّ، وما يهتدي به أتباعهم، وما يهتدي به من لم يتبعهم، فهي حينئذ معطوفة، لا معترضة لتقوية الكلام كما توهم، إذ لا داعي له، وليس في الكلام ما يقتضيه، بل فيه ما ينافيه.