قال الزمخشري في الآية: وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه، إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم. لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة، ويؤمونه من المقاصد الركيكة، من التصدر والترؤس والتبسط في البلاد، والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم، ومنافسة بعضهم بعضا، وفشوّ داء الضرائر بينهم، وانقلاب حماليق أحدهم إذا لمح ببصره مدرسة لآخر، أو شرذمة جثوا بين يديه.
وتهالكه على أن يكون موطّأ العقب دون الناس كلهم. فما أبعد هؤلاء من قوله عز وجل: لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً [القصص: ٨٣] انتهى.
الثالث- قال القاشاني في الآية: يجب على كل مستعد من جماعة، سلوك طريق طلب العلم، إذا لا يمكن لجميعهم. أما ظاهرا فلفوات المصالح، وأما باطنا فلعدم الاستعداد. ثم قال: والتفقه في الدين هو من علوم القلب، لا من علوم الكسب، إذ ليس كل من يكتسب العلم يتفقه، كما قال: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الأنعام: ٢٥] و [الإسراء: ٤٦] ، والأكنة هي الغشاوات الطبيعية، والحجب النفسانية فمن أراد التفقه فلينفر في سبيل الله، وليسلك طريق التزكية والتصفية، حتى يظهر العلم من قلبه على لسانه، فالمراد من التفقه علم راسخ في القلب، ضارب بعروقه في النفس، ظاهر أثره على الجوارح، بحيث لا يمكن صاحبه ارتكاب ما يخالف ذلك العلم، وإلا لم يكن عالما. ألا ترى كيف سلب الله الفقه عمن لم تكن رهبة الله أغلب عليه من رهبة الناس بقوله: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الحشر: ١٣] ، لكون رهبة الله لازمة للعلم، كما قال:
إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨] وسلب العلم عمن لم يعمل به في قوله: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: ٩] ، وإذا تفقهوا، وظهر علمهم على جوارحهم، أثّر في غيرهم، وتأثروا منه، لارتوائهم به، وترشحهم منه، كما كان حال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلزم الإنذار الذي هو غايته. انتهى.
ولما أمر تعالى، في صدر السورة، بالبراءة من مشركي العرب وقتالهم، ثم شرح أحوال المنافقين ومخازيهم، أشار إلى خاتمتها بما يطابق فاتحتها بذلك، فقال سبحانه: