[القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٤]]
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤)
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ أي: من المطاعم قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ أي:
ما ليس بخبيث منها. وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة. و (الطيّب) في اللغة هو المستلذ. و (الحلال) المأذون فيه، يسمى طيبا تشبيها بما هو مستلذ.
لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرة وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ عطف على (الطيبات) بتقدير مضاف. أي: وصيد ما علمتموه. أو مبتدأ، على أنّ (ما) شرطية وجوابها (فكلوا) . و (الجوارح) : الكواسب من سباع البهائم والطير- كالكلب والفهد والعقاب والصقر والبازي والشاهين- لأنها تجرح لأهلها أي تكسب لهم. الواحدة جارحة. تقول العرب: فلان جرح أهله خيرا، أي: كسبهم خيرا. وفلان لا جارح له.
أي: لا كاسب. ومنه قوله تعالى: وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام: ٦٠] . أي:
كسبتم. وقيل: سميت (جوارح) لأنها تجرح الصيد عند إمساكه. وقوله تعالى:
مُكَلِّبِينَ أي: معلمين لها أن تستشلي إذا أشليت، وتنزجر إذا زجرت، وتجتنب عند الدعوة، ولا تنفر عند الإرادة، فتصير كأنها وكلاؤكم لتعلمهن. إلا إذا قتلت بأنفسها من غير تعليم، فلا يحل صيدها.
قال الزمخشري: (المكلّب) مؤدب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها ورائضها لذلك، بما علم من الحيل وطرق التأديب والتثقيف. واشتقاقه من (الكلب) لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب. فاشتق من لفظه لكثرته في جنسه. أو لأن السبع يسمى كلبا. ومنه
قوله عليه الصلاة والسلام: «اللهمّ سلط عليه كلبا من كلابك. فأكله الأسد» . (الحديث حسن، أخرجه الحاكم
) ، أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة، يقال: هو كلب بكذا إذا كان ضاريا به. وانتصاب (مكلّبين) على الحال من (علمتم) . فإن قلت: ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها ب (علمتم) ؟
قلت: فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريرا في علمه، مدرّيا فيه، موصوفا بالتكليب. وقوله تعالى: تُعَلِّمُونَهُنَّ حال ثانية أو استئناف، وفيه فائدة جليلة.
وهي أنّ على كل آخذ علما أن لا يأخذه إلّا من أقتل أهله علما، وأنحرهم دراية، وأغوصهم على لطائفه وحقائقه. وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل. فكم من