فالجواب: أن رأس مالهم هو الهدى، فلمّا استبدلوا به ما يضادّه- ولا يجامعه أصلا- انتفى رأس المال بالكلية، وحين لم يبق في أيديهم إلا ذلك الضد- أعنى الضلالة- وصفوا بانتفاء الربح والخسارة. لأنّ الضالّ في دينه خاسر هالك- وإن أصاب فوائد دنيوية- ولأنّ من لم يسلم له رأس ماله لم يوصف بالريح، بل بانتفائه، فقد أضاعوا سلامة رأس المال بالاستبدال، وترتّب على ذلك إضاعة الربح.
وأما قوله: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ فليس معناه عدم اهتدائهم في الدين- فيكون تكرارا لما سبق- بل لما وصفوا بالخسارة في هذه التجارة أشير إلى عدم اهتدائهم لطرق التجارة- كما يهتدي إليه التجار البصراء بالأمور التي يربح فيها ويخسر- فهذا راجع إلى الترشيح.
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧)
ولما جاء بحقيقة صفتهم، عقّبها بضرب المثل- زيادة في الكشف، وتتميما للبيان- فقال تعالى: مَثَلُهُمْ أي: مثالهم في نفاقهم، وحالهم فيه كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ أي أوقد ناراً في ظلمة- والتنكير للتعظيم- فَلَمَّا أَضاءَتْ أي:
أنارت النار ما حَوْلَهُ فأبصر، واستدفأ، وأمن مما يخافه ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ أي:
أطفأ الله نارهم- التي هي مدار نورهم- فبقوا في ظلمة وخوف- وجمع الضمير مراعاة لمعنى الذي كقوله وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التوبة: ٦٩] . وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ ما حولهم- متحيّرين عن الطريق، خائفين- فكذلك هؤلاء استضاءوا قليلا بالانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم، حيث أمنوا على أنفسهم وما يتبعها. ثم وراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة- ظلمة النفاق- التي ترمي بهم إلى ظلمة سخط الله، وظلمة العقاب السرمد، ومحصوله: أنهم انتفعوا بهذه الكلمة مدّة حياتهم القليلة، ثم قطعه الله تعالى بالموت.
ونقل- عن كثير من السلف- تفسير آخر، وهو: تمثيل إيمانهم أوّلا، ثم كفرهم ثانيا. فيكون إذهاب النور في الدنيا، كما قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [المنافقون: ٣] الآية، فلمّا آمنوا أضاء الإيمان في قلوبهم- كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا نارا- ثمّ لمّا كفروا، ذهب الله بنورهم: انتزعه- كما ذهب