حيف والزيادة ظلم. ثم بيّن تعالى أن العفو أولى، فقال فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ أي بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي ثوابه عليه. وفي إبهامه، ما يدل على عظمه. حيث جعل حقا على العظيم الكريم إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي البادئين بالسيئة والمعتدين في الانتقام وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ أي بعد ما ظلم.
فالمصدر مضاف لمفعوله، أو هو مصدر المبنيّ للمفعول فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ أي للمعاقب، ولا للعاتب والعائب. لأنهم انتصروا منهم بحق. ومن أخذ حقه ممن وجب ذلك عليه، ولم يتعد ولم يظلم، فكيف يكون عليه سبيل؟ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ أي يبدءوهم بالظلم والإضرار، أو يعتدون في الانتقام وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي يتكبرون فيها ويفسدون أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي: بسبب ظلمهم وبغيهم.
وَلَمَنْ صَبَرَ أي على الأذى وَغَفَرَ أي لمن ظلمه ولم ينتصر إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي التي ندب الله عباده، وعزم عليهم العمل بها.
[تنبيه:]
نقل السيوطي في (الإكليل) عن الكيا الهراسيّ أنه قال: قد ندب الله إلى العفو في مواضع من كتابه، وظاهر هذه الآية وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ أن الانتصار أفضل. قال، وهو محمول على من تعدى وأصرّ، لئلا يتجرأ الفساق على أهل الدين. وآيات العفو فيمن ندم وأقلع. انتهى. وعجيب فهمه الأفضلية من الآية، فإنها لا تدل عليه، عبارة ولا إشارة. فإنه تعالى لم يرغب في الانتصار. وإنما بين أنه مشروع لهم إذا شاءوا. ثم بين بعده أن مشروعيته بشرط رعاية المماثلة. ثم بين أن العفو أولى، وهو الذي انتهى إليه الكلام، وتم به السياق. وكذلك لا حاجة إلى حمل الانتصار على من تعدى. وذلك لأن الانتصار بالمثل من فروع علم العقوبات والجزاء المشروعة لإقامة الحق والعدل، ودفع الظلم عن النفس والصغار، ورفع الأحقاد والأضغان. وأما العفو والصفح، فذاك من فروع علم الأخلاق وتهذيب النفوس. لأنه من باب المسامحة بالحق وإسقاط المستحق، رغبة في تزكية النفس وهضما لها وحرصا على خير الأمرين وأوفر الأجرين. وكلاهما من محاسن الشريعة الحنيفية، وتوسطها بين الاقتصاص البتة والعفو كليّا لأن العقل السليم يرى فيهما إفراطا