تأتي الفتنة مرادا بها المعصية، كقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [التوبة: ٤٩] . يقوله الجدّ بن قيس لما. ندبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى تبوك، يقول: ائذن لي في القعود ولا تفتني بتعرضي لبنات الأصفر فإني لا أصبر عنهنّ..!
قال تعالى: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي: وقعوا في فتنة النفاق وفروا إليها من فتنة بنات الأصفر.
والمقصود: أن الله سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف، ولم يبرئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتل في الشهر الحرام، بل أخبر الله أنه كبير وأنّ ما عليه أعداؤه المشركون أكبر وأعظم من مجرّد القتال في الشهر الحرام، فهم أحقّ بالذم، والعيب والعقوبة، لا سيما أولياؤه. كانوا متأولين في قتالهم ذلك، أو مقصرين نوع تقصير يغفره الله لهم. في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات والهجرة مع رسوله وإيثار ما عند الله، فهم كما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع ... !
فكيف يقاس ببغيض عدوّ جاء بكلّ قبيح ولم يأت بشفيع واحد من المحاسن؟ ..
[تنبيه:]
اتفق الجمهور على أنّ حكم هذه الآية: حرمة القتال في الشهر الحرام. ثم اختلفوا أنّ ذلك الحكم هل بقي أم نسخ؟.
قال ابن القيّم في (زاد المعاد) في الفصل الذي عقده لما كان في غزوة خيبر من الأحكام الفقهية. ما نصه: منها محاربة الكفار ومقاتلتهم في الأشهر الحرم، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجع من الحديبية في ذي الحجة. فمكث بها ثم سار إلى خيبر في المحرم كذلك. قال الزهريّ عن عروة عن مروان والمسور، وكذلك قال الواقديّ:
خرج في أوّل سنة سبع من الهجرة. ولكن في الاستدلال بذلك نظر. فإنّ خروجه كان في أواخر المحرم لا في أوله، وفتحها إنما كان في صفر. وأقوى من هذا الاستدلال بيعة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أصحابه تحت الشجرة بيعة الرضوان على القتال وأن لا يفروا. وكانت في ذي القعدة. ولكن لا دليل في ذلك. لأنه إنما بايعهم على ذلك لما بلغه أنهم قد قتلوا عثمان وهم يريدون قتاله، فحينئذ بايع الصحابة. ولا خلاف في جواز القتال في الشهر الحرام دفعا، وإنما الخلاف أن يقاتل فيه ابتداء. فالجمهور جوّزوه وقالوا:
تحريم القتال فيه منسوخ، وهو مذهب الأئمة الأربعة رحمهم الله. وذهب عطاء وغيره إلى أنّه ثابت غير منسوخ وكان عطاء يحلف بالله ما يحل القتال في الشهر