وقال القاشاني: لما حجبوا بصفات نفوسهم عن النور الذي هو به يفضل عليهم بما لا يقاس، ولم يجدوا منه إلا البشرية، أنكروا هدايته، فإن كل عارف لا يعرف معروفه إلا بالمعنى الذي فيه، فلا يوجد النور الكمالي إلا بالنور الفطري، ولا يعرف الكمال إلا الكامل، ولهذا قيل: لا يعرف الله إلا الله، وكل طالب وجد مطلوبه بوجه ما دالّا لما أمكن به التوجه نحوه، وكذا كل مصدق بشيء، فإنه واجد للمعنى المصدق به، بما في نفسه من ذلك المعنى. فلما لم يكن فيهم شيء من النور الفطري أصلا، لم يعرفوا منه الكمال فأنكروه، ولم يعرفوا من الحق شيئا، فيحدث فيهم طلب، فيحتاجوا إلى الهداية، فأنكروا الهداية.
فَكَفَرُوا أي: بالحق والدين والرسول وَتَوَلَّوْا أي عن التدبر في الآيات البينات، وَاسْتَغْنَى اللَّهُ أي: أظهر استغناءه عن إيمانهم وطاعتهم، حيث أهلكهم وقطع دابرهم، ولولا غناه تعالى عنهم لما فعل ذلك. ف (استغنى) معطوف على ما قبله، وجوز جعله حالا بتقدير (قد) . أي: وقد استغنى بكماله، عرفوا أو لم يعرفوا.
وَاللَّهُ غَنِيٌّ أي: بذاته عن العالمين، فضلا عن إيمانهم، لا يتوقف كمال من كمالاته عليهم، ولا على معرفتهم له. حَمِيدٌ أي: يحمده كل مخلوق، أو مستحق للحمد بنفسه، وإن لم يحمده حامد.
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا، قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ أي من قبوركم ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ أي في الدنيا وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي هين لقبول المادة، وثبوت القدرة الكاملة.
قال ابن كثير: وهذه هي الآية الثالثة التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه عزّ وجلّ، على وقوع المعاد ووجوده. فالأولى في يونس: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ، قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس: ٥٣] ، والثانية في سبأ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ: ٣] . والثالثة هذه الآية.