وغير السمع والبصر أعظم في المعصية. لأن معصية السمع إنما تكون في سماع غيبة، أو في سماع صوت مزمار أو وتر، أو ما جرى هذا المجرى. ومعصية البصر إنما تكون في النظر إلى محرم: وكلتا المعصيتين لا حدّ فيها. وأما المعاصي التي توجد من غير السمع والبصر، فأعظم. لأن معصية اليد توجب القطع. ومعصية الفرج توجب جلد مائة أو الرجم. وهذا أعظم. فكان ينبغي أن تخص بالذكر دون السمع والبصر. وإذا ثبت فساد ما ذهبت إليه، فلم يكن المراد بالجلود إلا الفروج خاصة.
انتهى كلام ابن الأثير.
وناقشه ابن أبي الحديد في (الفلك الدائر) بما محصله: أن حمل الجلد على الفرج إنما يتعين، إذا كان بين لفظتي الجلد والفرج أو معناهما مناسبة. ولا نجد مناسبة إلا أن يكون لأجل أن الجلد جزء من أجزاء ماهية الفرج. فعبر عن الكل بالبعض، وهو بعيد جدا. انتهى.
وأقول: مقصود من أثر عنه إرادة الفروج بالجلود هو إرادة الفرد الأهم والأقوى.
وذلك لأن الجلود تصدق على ما حواه الجسم من الأعضاء والعضلات التي تكتسب الجريمة. ولا يخفى أن أهمها بالعناية وأولاها بالإرادة هو الفروج. لأن معصيتها تربى على الجميع. وقد عهد في مفسري السلف اقتصارهم في التأويل من العامّ على فرده الأهم. كقصرهم (سبيل الله) على الجهاد، مع أن (سبيل الله) يصدق على كل ما فيه خير وقربة ونفع ومعونة، على الطاعة. إلا أن أهم الجميع هو جهاد الذين يصدون عن الحق. فذكر الجهاد لا ينفي غيره. وهذه فائدة ينبغي أن يحرص على فهمها كل من له عناية بالتفسير. فإنها من فوائده الجليلة. وينحل بها إشكالات.
ليست بالقليلة، والله الموفق. وقوله تعالى: وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إما من تمام كلام الجلود، أو مستأنف من كلامه تعالى: وعلى كلّ، فهو مقرر لما قبله، بأن القادر على الخلق أول مرة، قادر على إنطاق كل شيء.
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ أي وما كنتم تستترون عند فعلكم الفواحش والمنكرات، مخالفة أو كراهة أن يشهد عليكم