للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره، وخاطب في الأمر ترشيحا لاستعارة النداء.

ثم قال: ماءَكِ بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز، تشبيها لاتصال الماء بالأرض، باتصال الملك بالمالك، واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح. ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان. ثم أمر على سبيل الاستعارة، وخاطب في الأمر قائلا: أَقْلِعِي لمثل ما تقدم في ابْلَعِي. ثم قال: وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لم يصرح بمن غاض الماء، ولا بمن قضي الأمر، وسوّى السفينة. وقال: بُعْداً كما لم يصرح بقائل: يا أرض ويا سماء في صدر الآية، سلوكا في كل واحد من ذلك سبيل الكناية، أن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلا من ذي قدرة لا يكتنه. قهّار لا يغالب. فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره- جلت عظمته- قائل يا أرض ويا سماء، ولا غائض مثل ما غاض، ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل، وأن تكون تسوية السفينة وإقرارها، بتسوية غيره وإقراره. ثم ختم الكلام بالتعريض، تنبيها لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل، ظلما لأنفسهم لا غير، ختم إظهار، لمكان السخط، ولجهة استحقاقهم إياه، وأن قيامة الطوفان، وتلك الصورة الهائلة، ما كانت إلا لظلمهم.

وأما النظر فيها من حيث علم المعاني، وهو النظر في فائدة كل كلمة منها، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها، فذلك أنه اختير (يا) دون سائر أخواتها، لكونها أكثر في الاستعمال، وأنها دالة على بعد المنادي الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة، وإبداء شأن العزة والجبروت، وهو تبعيد المنادي المؤذن بالتهاون به، ولم يقل: يا أرض! بالكسر لإمداد التهاون، ولم يقل: يا أيتها الأرض! لقصد الاختصار مع الاحتراز عما في (أيتها) من تكلف التنبيه غير المناسب بالمقام. واختير لفظ (الأرض) دون سائر أسمائها، لكونه أخف وأدور. واختير لفظ السماء لمثل ما تقدم في الأرض، مع قصد المطابقة. واختير لفظ ابْلَعِي على (ابتلعي) لكون أخصر، ولمجيء خط التجانس بينه وبين أَقْلِعِي أوفر. وقيل: ماءَكِ من بالإفراد دون الجمع، لما كان في الجمع من صورة الاستكثار المتأبي عنها مقام إظهار الكبرياء والجبروت، وهو الوجه في إفراد (الأرض) و (السماء) . وإنما لم يقل: ابْلَعِي بدون المفعول، أن لا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن، نظرا إلى مقام ورود الأمر، الذي هو مقام عظمة وكبرياء. ثم إذا بين المراد اختصر الكلام مع أَقْلِعِي احترازا عن الحشو المستغني عنه، وهو- أي الاختصار. الوجه في أن لم يقل: قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت، ويا

<<  <  ج: ص:  >  >>