للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سماء أقلعي فأقلعت. واختير (غيض) على (غيّض) المشدد لكونه أخصر، وقيل (الماء) ، دون أن يقال: ماء طوفان السماء وكذا الأمر دون أن يقال: أمر نوح، وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحا من إهلاك قومه، لقصد الاختصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك. ولم يقل: سويت على الجودي: بمعنى أقرّت على نحو: (قيل) و (غيض) و (قضي) في البناء للمفعول اعتبارا لبناء الفعل للفاعل مع السفينة في قوله وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ مع قصد الاختصار في اللفظ. ثم قيل: بُعْداً لِلْقَوْمِ دون أن يقال: ليبعد القوم، طلبا للتأكيد مع الاختصار، وهو نزول بُعْداً وحده، منزلة ليبعدوا بعدا، مع فائدة أخرى: وهي استعمال اللام مع (بعدا) الدال على معنى أن البعد حق لهم، ثم أطلق الظلم ليتناول كل نوع، حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم، لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل. هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم.

وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل: فذاك أنه قد قدم النداء على الأمر فقيل: يا أَرْضُ ابْلَعِي، وَيا سَماءُ أَقْلِعِي دون أن يقال: ابلعي يا أرض، وأقلعي يا سماء، جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورا حقيقة. من تقديم التنبيه، ليمكّن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى، قصدا بذلك لمعنى الترشيح. ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء، وابتدئ به لابتداء الطوفان منها، وبنزولها لذلك في القصة منزلة الأصل، والأصل بالتقديم أولى، ثم أتبعها قوله: وَغِيضَ الْماءُ لاتصاله بقصة الماء، وأخذه بحجزتها. ألا ترى أصل الكلام (قيل يا أرض ابلعي ماءك، فبلعت ماءها، ويا سماء أقلعي عن إرسال الماء، فأقلعت عن إرساله، وغيض الماء النازل من السماء، فغاض) ثم أتبعه ما هو مقصود من القصة وهو قوله: وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي أنجز الموعود من إهلاك الكفرة، وإنجاء نوح ومن معه في السفينة، ثم أتبعه حديث السفينة، وهو قوله وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ثم ختمت القصة بما ختمت. هذا كله نظر في الآية من جانبي البلاغة.

وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية، فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف، وتأدية لها ملخصة مبينة، لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد، ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد، بل إذا جربت نفسك عند استماعها، وجدت ألفاظها تسابق معانيها، ومعانيها تسابق ألفاظها فما من لفظة في تركيب الآية ونظمها تسبق إلى أذنك، إلا ومعناها أسبق إلى قلبك.

وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية: فألفاظها على ما نرى عربية،

<<  <  ج: ص:  >  >>