الثانية- نقل ابن كثير آثارا عن بعض التابعين أن عرض الأمانة على هذه الأجرام كان حقيقيا. وأنه قيل لها: إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت. فقلن: يا رب! إنا لا نستطيع هذا الأمر، ليس بنا قوة. ولكنا لك مطيعين. قال الشراح: ولا بعد، أن يخلق الله فيها فهما لخطابه، وأنه كان على سبيل التخيير لها. ولذا عبر بالعرض، لا تكليفا حتى يلزم عصيانها. انتهى.
قال الإمام ابن حزم في (الفصل) في الردّ على من جعل للجمادات تمييزا، ما مثاله: وأما عرضه تعالى الأمانة على السموات والأرض والجبال، وإباية كل واحد منها، فلسنا نعلم نحن ولا أحد من الناس كيفية ذلك. وهذا نص قوله: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ [الكهف: ٥١] ، فمن تكلف أو كلف غيره معرفة ابتداء الخلق، وأن له مبدأ لا يشبهه البتة، فأراد معرفة كيف كان، فقد دخل في قوله تعالى: وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور: ١٥] .
إلا أننا نوقن أنه تعالى لم يعرض على السموات والأرض والجبال الأمانة، إلا وقد جعل فيها تمييزا لما عرض عليها. وقوة تفهم بها الأمانة فيما عرض عليها. فلما أبتها وأشفقت منها، سلبها ذلك التمييز وتلك القوة، وأسقط عنها تكليف الأمانة.
قال: هذا ما يقتضيه كلامه عز وجل، ولا مزيد عندنا على ذلك. انتهى.
وذهب جمع إلى أن ذلك من باب المجاز، كما بينه ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) وسبقه الزمخشريّ حيث قال: ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب. وما جاء القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم. ومن ذلك قولهم (لو قيل للشحم أين تذهب، لقال أسوّي العوج) وكم وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات. وتصوّر مقاولة الشحم محال. ولكن الغرض أن السّمن في الحيوان مما يحسّن قبيحه. كما أن العجف مما يقبح حسنه. فصوّر أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس السامع، وهي به آنس، وله أقبل، وعلى حقيقته أوقف. وكذلك تصوير عظم الأمانة، وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها. انتهى.
الثالثة- قال الرازيّ: إن قال قائل: لم قدم التعذيب على التوبة- في آخر الآية؟ نقول: لما سمي التكليف أمانة، والأمانة من حكمها اللازم أن الخائن يضمن، وليس من حكمها اللازم أن الأمين الباذل جهده يستفيد أجرة، فكان التعذيب على