هذا وثمة روايات أخر في سبب نزولها. منها ما روى أبو داود «١» وابن أبي حاتم عن داود بن الحصين. قال: كنت أقرأ على أم سعد بنت الربيع. وكانت يتيمة في حجر أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقرأت:(والذين عاقدت أيمانكم) .
فقالت: لا تقرأ هكذا ولكن: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ إنما أنزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن رضي الله عنهما حين أبى الإسلام. فحلف أبو بكر لا يورثه. فلما أسلم أمره الله تعالى أن يورثه نصيبه.
ومنها ما روى ابن جرير عن الزهريّ عن ابن المسيب قال: نزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون رجالا غير أبنائهم يورثونهم. فأنزل الله فيهم. فجعل لهم نصيبا في الوصية وردّ الميراث إلى الموالي في ذي الرحم والعصبة. وأبى الله أن يكون للمدّعين ميراثا ممن ادعاهم وتبناهم. ولكن جعل لهم نصيبا من الوصية.
واعلم أن هذه الوجوه السلفية المروية في نزول الآية، كلها مما تصدق عليها الآية وتشملها وينطبق حكمها عليها: ولا تنافي بينها. لما أسلفناه في مقدمة التفسير. فراجعها ولا تغفل عنها.
هذا ولأبي عليّ الجبائيّ تأويل آخر في الآية. قال: تقدير الآية: ولكن شيء مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم موالي، ورثة، فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ. أي فآتوا الموالي والورثة نصيبهم. فقوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ. معطوف على قوله: الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ. والمعنى: إن ما ترك الذين عاقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به. وسمى الله تعالى الوارث مولى. والمعنى: لا تدفعوا المال إلى الحليف بل إلى المولى والوارث.
وقال أبو مسلم الأصفهانيّ: المراد ب الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ الزوج والزوجة.
والنكاح يسمى عقدا. قال تعالى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ [البقرة: ٢٣٥] .
فذكر تعالى الوالدين والأقربين وذكر معهم الزوج والزوجة. ونظيره آية المواريث، في أنه لما بيّن ميراث الولد والوالدين، ذكر معهم ميراث الزوج والزوجة.
أقول: هذا التأويل المذكور وما قبله طريقة من لا يقف مع الآثار السلفية في التفسير. ويرى مزاحمتهم في الاجتهاد في ذلك. ذهابا إلى أن ما لم يتواتر في معنى الآية، من خبر أو إجماع، فلا حجة في المرويّ منه آحادا، مرفوعا أو موقوفا، وإن
(١) أخرجه أبو داود في: الفرائض، ١٦- باب نسخ ميراث العقد بميراث الرحم، حديث ٢٩٢٣.