مِنَ الَّذِينَ هادُوا بيان للموصول وهو الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ فإن متناول لأهل الكتابين. وقد وسط بينهما ما وسط لمزيد الاعتناء ببيان محل التشنيع والتعجيب والمسارعة إلى تنفير المؤمنين منهم، وتحذيرهم عن مخالطتهم، والاهتمام بحملهم على الثقة بالله عز وجل، والاكتفاء بولايته ونصرته. وقوله تعالى يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ هو وما عطف عليه بيان لاشترائهم المذكور، وتفصيل لفنون ضلالهم. فقد روعيت في النظم الكريم طريقة التفسير بعد الإبهام، والتفصيل إثر الإجمال. روما لزيادة تقرير يقتضيه الحال. أفاده أبو السعود.
قال الإمام ابن كثير: قوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ أي يتناولونه على غير تأويله، ويفسرونه بغير مراد الله عز وجل، قصدا منهم وافتراء.
وقال العلامة الرازيّ: في كيفية التحريف وجوه: أحدها- إنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر. ثم قال: والثاني- أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ من معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية. كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا، بالآيات المخالفة لمذاهبهم، وهذا هو الأصح. والثالث- أنهم كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به. فإذا خرجوا من عنده حرّفوا كلامه. انتهى.
وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى في (إغاثة اللهفان) : قد اختلف في التوراة التي بأيديهم. هل هي مبدلة أم التبديل وقع في التأويل دون التنزيل؟ على ثلاثة أقوال: قالت طائفة: كلها أو أكثرها مبدل. وغلا بعضهم حتى قال: يجوز الاستجمار بها. وقالت طائفة من أئمة الحديث والفقه الكلام: إنما وقع التبديل في التأويل. قال البخاريّ «١» في (صحيحه) : يحرفون يزيلون. وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله. ولكنهم يتأولونه على غير تأويله. وهو اختيار الرازيّ أيضا.
وسمعت شيخنا يقول: وقع النزاع بين الفضلاء. فأجاز هذا المذهب ووهّى غيره. فأنكر عليه. فأظهر خمسة عشر نقلا به. ومن حجة هؤلاء، أن التوراة قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها. وانتشرت جنوبا وشمالا. ولا يعلم عدد نسخها إلا الله.
فيمتنع التواطؤ على التبديل والتغيير في جميع تلك النسخ، حتى لا تبقى في الأرض
(١) أخرجه البخاريّ في: التوحيد، ٥٥- باب قول الله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ.