وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً أي افترى واختلق، مرتكبا إثما لا يقادر قدره. ويستحقر دونه جميع الآثام. فلا تتعلق به المغفرة قطعا.
قال ابن القيّم رحمه الله تعالى في كتابه (الجواب الكافي) : الشرك بالرب تعالى نوعان: شرك به في أسمائه وصفاته، وجعل آلهة أخرى معه. وشرك به في معاملته. وهذا الثاني قد لا يوجب دخول النار، وإن أحبط العمل الذي أشرك فيه مع الله غيره. وهذا القسم أعظم أنواع الذنوب، ويدخل فيه القول على الله بلا علم، في خلقه وأمره. فمن كان من أهل هذه الذنوب، فقد نازع الله، سبحانه وتعالى، ربوبيته وملكه. وجعل له ندّا. وهذا أعظم الذنوب عند الله. ولا ينفع معه عمل.
وقال بعد ذلك: وكشف الغطاء عن هذه المسألة أن يقال: إن الله عز وجل أرسل رسله وأنزل كتبه وخلق السموات والأرض، ليعرف ويعبد ويوحد ويكون الدين كله له، والطاعة كلها له، والدعوة له. كما قال تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] . وقال تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الحجر: ٨٥] . وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [الطلاق: ١٢] . وقال تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المائدة: ٩٧] . فأخبر سبحانه أن القصد بالخلق والأمر أن يعرف بأسمائه وصفاته، ويعبد وحده لا يشرك به، وأن يقوم الناس بالقسط. وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض. كما قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: ٢٥] . فأخبر سبحانه أنه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل. ومن أعظم القسط التوحيد. بل هو رأس العدل وقوامه. وإن الشرك ظلم عظيم. كما قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: ١٣] . فالشرك أظلم الظلم. والتوحيد أعدل العدل. فما كان أشد منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر.
وتفاوتها في درجاتها بحسب منافاتها له. وما كان أشد موافقة لهذا المقصود، فهو أوجب الواجبات وأفرض الطاعات. فتأمل هذا الأصل حق التأمل واعتبر به تفاصيله، تعرف به أحكم الحاكمين وأعلم العالمين، فيما فرض على عباده وحرمه عليهم.