الذي لأجله تكرهون القتال، زعما منكم أنه من مظانه. وتحبون القعود عنه، على زعم أنه منجاة منه. أي: وإذا كان لا بد من الموت، فبأن يقع على وجه يكون مستعقبا للسعادة الأبدية، كان أولى من أن لا يكون كذلك. ونظير هذه الآية قوله تعالى: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب: ١٦] . وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ أي حصون مُشَيَّدَةٍ أي: مرفوعة مستحكمة. لا يصل إليها القاتل الإنسانيّ. لكنها لا تمنع القاتل الإلهيّ. كما قال زهير بن أبي سلمى:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلّم
وقد ذكر ابن جرير «١» وابن أبي حاتم هاهنا حكاية مطولة عن مجاهد. والشاهد منها هنا أنها كانت أخبرت بأنها تموت بالعنكبوت. فاتخذ لها زوجها قصرا منيعا شاهقا ليحرزها من ذلك. فبينما هم يوما فإذا العنكبوت في السقف. فأراها إياها فقالت: أهذه التي تحذرها عليّ؟ والله! لا يقتلها إلا أنا. فأنزلوها من السقف.
فعمدت إليها فوطئتها بإبهام رجلها فقتلتها. فطار من سمّها شيء فوقع بين ظفرها ولحمها. واسودت رجلها. فكان في ذلك أجلها. فماتت.
ولما حكى تعالى عن المنافقين كونهم متثاقلين عن الجهاد. خائفين من الموت، غير راغبين في سعادة الآخرة، أتبع ذلك بخلّة لهم أشنع، بقوله سبحانه وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ كخصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحوها يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي من قبله، لما علم فينا الخير وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ كقحط وجدب، وغلاء السعر، ونقص في الزروع والثمار، وموت أولاد ونتاج، ونحو ذلك يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ يعنون: من شؤمك. كما قال تعالى عن قوم فرعون: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف: ١٣١] .
قال أبو السعود: فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن يرد زعمهم الباطل ويرشدهم إلى الحق ويلقمهم الحجر، ببيان إسناد الكل إليه تعالى على الإجمال. إذ لا يجترءون على معارضة أمر الله عز وجل حيث قيل قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي كل واحدة من النعمة والبلية من جهة الله تعالى، خلقا وإيجادا، من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شيء