عنوه بها من المعاني. فإن ادعى مدّع أنه يعلم وضعا يتقدم ذلك فهو مبطل، فإن هذا لم ينقله أحد من الناس. ولا يقال نحن نعلم ذلك بالدليل، فإنه- إن لم يكن اصطلاح متقدم- لم يمكن الاستعمال. قيل: ليس الأمر كذلك، بل نحن نجد أن الله يلهم الحيوان من الأصوات ما به يعرف بعضها مراد بعض، وقد سمي ذلك منطقا وقولا في قول سليمان: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النمل: ١٦] ، وفي قوله: «قالَتْ نَمْلَةٌ: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النمل: ١٨] ، وفي قوله: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ: ١٠] . وكذلك الآدميون، فالمولود إذا ظهر منه التمييز سمع أبويه، أو من يربيه، ينطق باللفظ، ويشير إلى المعنى، فصار يفهم أن ذلك اللفظ يستعمل في ذلك المعنى- أي أراد المتكلم به ذلك المعنى- ثم هذا يسمع لفظا بعد لفظ حتى يعرف لغة القوم الذين نشأ بينهم من غير أن يكونوا قد اصطلحوا معه على وضع متقدم. بل ولا فقهوه على معاني الأسماء. وإن كان أحيانا قد يسأل عن مسمى بعض الأشياء فيوقف عليها. كما يترجم للرجل اللغة التي لا يعرفها فيوقف على معاني ألفاظها، وإن باشر أهلها مدة، علم ذلك بلا توقيف من أحد. نعم، قد يضع الناس الاسم لما يحدث، مما لم يكن من قبلهم يعرفه فيسميه، كما يولد لأحدهم فيسميه اسما إما منقولا أو مرتجلا. وقد يكون المسمّي واحدا لم يصطلح مع غيره. وقد يستوون فيما يسمونه. وكذلك قد يحدث الرجل آلة من صناعة، أو يصنّف كتابا، أو يبني مدينة. ونحو ذلك فيسميه باسم، لأنه ليس من الأجناس المعروفة حتى يكون له اسم في اللغة العامة. وقد قال تعالى: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرحمن: ١- ٤] ، قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت: ٢١] ، وقال: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى: ٢- ٣] وهو سبحانه يلهم الإنسان المنطق كما يلهم غيره. وهو سبحانه، إذا كان قد علّم آدم الأسماء كلها، وعرض المسميات على الملائكة- كما أخبر بذلك في كتابه-. فنحن نعلم أنه لم يعلّم آدم جميع اللغات التي يتكلم بها جميع الناس إلى يوم القيامة، وأن تلك اللغات اتصلت إلى أولاده فلا يتكلّمون إلا بها ...
فإن دعوى هذا كذب ظاهر ... ! فإن آدم، عليه السلام، إنما ينقل عنه بنوه. وقد أغرق الله، عام الطوفان، جميع ذريته إلا من في السفينة. وأهل السفينة انقطعت ذريتهم إلا أولاد نوح. ولم يكونوا يتكلّمون بجميع ما تكلمت به الأمم بعدهم. فإن اللغة الواحدة: كالفارسية، والعربية، والرومية، والتركية.. فيها من الاختلاف والأنواع ما لا يحصيه إلا الله. والعرب أنفسهم، لكلّ قوم لغات لا يفهمها غيرهم. فكيف يتصور