الاستعمال على بعض الألفاظ، فيصير المعنى أشهر فيه، ولا يدل عند الإطلاق إلا عليه، فتصير الحقيقة العرفية ناسخة للحقيقة اللغوية. واللفظ مستعمل في هذا الاستعمال الحادث العرفيّ، وهو حقيقة من غير أن يكون لما استعمل فيه ذلك تقدم وضع. فعلم أن تفسير الحقيقة بهذا لا يصح، وإن قالوا: يعني، بما وضع له، ما استعملت فيه أولا. فيقال: من أين يعلم أن هذه الألفاظ التي كانت العرب تتخاطب بها عند نزول القرآن وقبله، لم تستعمل قبل ذلك في معنى شيء آخر؟ وإذا لم يعلموا هذا النفي، فلا تعلم أنها حقيقة، وهذا خلاف ما اتفقوا عليه. وأيضا فيلزم من هذا أن لا يقطع بشيء من الألفاظ أنه حقيقة، وهذا لا يقوله عاقل. ثم هؤلاء الذين يقولون هذا نجد أحدهم يأتي إلى ألفاظ لم يعلم أنها استعملت إلّا مقيّدة، فينطق بها مجردة عن جميع القيود، ثمّ يدعي أنّ ذلك هو حقيقتها من غير أن يعلم أنها نطق بها مجرّدة، ولا وضعت مجرّدة. مثل أن يكون حقيقة العين هو العضو المبصر، ثم سميت به عين الشمس، والعين النابعة، والعين الذهب، للمشابهة. لكنّ أكثرهم يقولون: إنّ هذا من باب المشترك، لا من باب الحقيقة والمجاز، فيمثل بغيره مثل لفظ الرأس. يقولون: هو حقيقة في رأس الإنسان. ثم قالوا: رأس الدرب- لأوّله-، ورأس العين- لمنبعها-، ورأس القوم- لسيدهم-، ورأس الأمر- لأوله-، ورأس الشهر، ورأس الحول ... وأمثال ذلك على طريق المجاز. وهم لا يجدون قط أنّ لفظ الرأس استعمل مجردا، بل يجدون أنه استعمل بالقيود في رأس الإنسان، كقوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: ٦] ، ونحوه. وهذا القيد يمنع أن يدخل فيه تلك المعاني. فإذا قيل: رأس العين، ورأس الدرب، ورأس الناس، ورأس الأمر....، فهذا المقيد غير ذاك المقيد، ومجموع اللفظ الدال هنا غير مجموع اللفظ الدال هناك، لكن اشتركا في بعض اللفظ كاشتراك كل الأسماء المعرّفة في لام التعريف. ولو قدر أن الناطق باللغة نطق بلفظ رأس الإنسان أولا، لأن الإنسان يتصور رأسه قبل غيره، والتعبير أولا هو عما يتصوره أولا. فالنطق بهذا المضاف أولا لا يمنع أن ينطق بمضاف إلى غيره ثانيا، ولا يكون هذا من المجاز كما في سائر المضافات. فإذا قيل: ابن آدم، أولا، لم يكن قولنا، ابن الفرس وابن الحمار، مجازا.
وكذلك إذا قيل: بنت الإنسان، لم يكن قولنا بنت الفرس- مجازا. وكذلك إذا قيل:
رأس الإنسان أولا، لم يكن قولنا رأس الفرس- مجازا. وكذلك في سائر المضافات، إذا قيل: يده أو رجله. فإذا قيل: هو حقيقة فيما أضيف إلى الحيوان. قيل: ليس جعل هذا هو الحقيقة بأولى من أن يجعل ما أضيف إلى رأس الإنسان، ثم يضاف