للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

للتراسل- أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يعدّ لها، بمحض فضله، بعض من يصطفيه من خلقه؟ وهو أعلم حيث يجعل رسالته. يميزهم بالفطر السليمة ويبلغ بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنوار علمه. والأمانة على مكنون سره. مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم، لفاضت له نفسه أو ذهبت بعقله جلالته وعظمه. فيشرفون على الغيب بإذنه، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه، ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العاملين. نهاية الشاهد وبداية الغائب.

فهم في الدنيا كأنهم ليسوا من أهلها، وهم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها ثم يتلقون من أمره أن يحدّثوا عن جلاله، وما خفي على العقول من شؤون حضرته الرفيعة، بما يشاء أن يعتقده العباد فيه، وما قدّر أن يكون له مدخل في سعادتهم الأخروية، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من علمه. معبرين عنه بما تحتمله طاقة عقولهم، ولا يبعد عن متناول أفهامهم. وأن يبلغوا عنه شرائع عامة.

تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم، في ذلك الكون المغيّب عن مشاعرهم بتفصيله، اللاصق علمه بأعماق ضمائرهم في إجماله. ويدخل في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بكليات الأعمال ظاهرة وباطنة. ثم يؤيدهم بما لا تبلغه قوى البشر من الآيات. حتى تقوم بهم الحجة ويتم الإقناع بصدق الرسالة. فيكونون بذلك رسلا من لدنه إلى خلقه، مبشرين ومنذرين.

لا ريب أن الذي أحسن كل شيء خلقه، وأبدع في كل كائن صنعه، وجاد على كل حيّ بما إليه حاجته، ولم يحرم من رحمته حقيرا ولا جليلا من خلقه- يكون من رأفته بالنوع الذي أجاد صنعه، وأقام له من قبول العلم ما يقوم مقام المواهب التي اختص بها غيره- أن ينقذه من حيرته، ويخلصه من التخبط في أهم حياتيه والضلال في أفضل حاليه.

يقول قائل: ولم لم يودع في الغرائز ما تحتاج إليه من العلم، ولم يضع فيها الانقياد إلى العمل، وسلوك الطريق المؤدية إلى الغاية في الحياة الآخرة؟ وما هذا النحو من عجائب الرحمة في الهداية والتعليم؟ وهو قول يصدر عن شطط العقل، والغفلة عن موضوع البحث وهو النوع الإنسانيّ. ذلك النوع، على ما به، وما دخل في تقويم جوهره من الروح المفكر، وما اقتضاه ذلك من الاختلاف في مراتب الاستعداد باختلاف أفراده، وأن لا يكون كل فرد منه مستعدا لكل حال بطبعه، وأن يكون وضع وجوده على عماد البحث والاستدلال. فلو ألهم حاجاته كما تلهم الحيوانات، لم

<<  <  ج: ص:  >  >>