لما أن شأنه عليه السلام متعلق بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذين نعيت عليهم في السورة الكريمة جناياتهم. فتفصيله أعظم عليهم وأجلب لحسرتهم وندامتهم، وأدخل في صرفهم عن غيهم وعنادهم. أفاده أبو السعود.
اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ أي: منّتي عليك وَعَلى والِدَتِكَ بما طهرها واصطفاها على نساء العالمين إِذْ أَيَّدْتُكَ أي: قوّيتك بِرُوحِ الْقُدُسِ أي: بجبريل عليه السلام لتثبيت الحجة. أو بجعل روحك طاهرة عن العلائق الظلمانية. بحيث يعلم أنه ليس بواسطة البشر، فيشهد ببراءتك وبراءة أمك. ومن ذلك التأييد قويت نفسك الناطقة. لذلك تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا أي: في أضعف الأحوال وأقواها.
بكلام واحد من غير أن يتفاوت في حين الطفولة وحين الكهولة. الذي هو وقت كمال العقل وبلوغ الأشد.
قال ابن كثير: أي جعلتك نبيّا داعيا إلى الله في صغرك وكبرك. فأنطقتك في المهد صغيرا. فشهدت ببراءة أمك من كل عيب. واعترفت لي بالعبودية. وأخبرت عن رسالتي إياك ودعوتك إلى عبادتي. لهذا قال تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا أي:
تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك. وضمن تُكَلِّمُ تدعو، لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب. انتهى.
وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ أي: الخط وظاهر العلم الذي يكتب وَالْحِكْمَةَ أي:
الفهم وباطن العلم الذي لا يكتب. بل يخص به أهله وَالتَّوْراةَ وهي المنزلة على موسى الكليم عليه السلام وَالْإِنْجِيلَ وهو الذي أنزله عليه، صلى الله عليه وسلم وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أي: تقدر وتصور منه صورة مماثلة لهيئة الطير بِإِذْنِي أي:
لك في ذلك فَتَنْفُخُ فِيها أي: في تلك الهيئة المصورة فَتَكُونُ أي: فتصير تلك الهيئة طَيْراً لحصول الروح من نفختك فيها بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ أي:
الذي يولد أعمى مطموس البصر وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى أي: من القبور أحياء بِإِذْنِي فهذا مما فعل به من جرّ المنافع. ثم أشار إلى ما دفع عنه من المضارّ، فقال سبحانه وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ أي: منعت اليهود الذين أرادوا بك السود وسعوا في قتلك وصلبك، فنجيتك منهم ورفعتك إليّ وطهرتك من دنسهم إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي: المعجزات التي توجب انقيادهم لك لتعاليها عن قوى البشر فلا يتوهم فيها السحر فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي: ما هذا الذي يرينا إلا سحر ظاهر.