وقد روي بذلك حديث مرفوع، رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله مولى عمر بن عبد العزيز، وكان ثقة قال: سمعت أبا بردة يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه، أبي موسى الأشعري. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة دعي بالأنبياء وأممهم. ثم يدعى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه فيقرّ بها فيقول:
يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ الآية، ثم يقول: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ فينكر أن يكون قال ذلك، فيؤتى بالنصارى فيسألون فيقولون: نعم هو أمرنا بذلك! قال: فيطول شعر عيسى عليه السلام. فيأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده فيجاثيهم بين يدي الله عز وجل مقدار ألف عام حتى ترفع عليهم الحجة ويرفع لهم الصليب وينطلق بهم إلى النار!
قال ابن كثير: وهذا حديث غريب عزيز! الثاني: إيثار قوله تعالى أُمِّي على مَرْيَمَ توبيخ للمتخذين، على توبيخ، أي مع أنك بشر تلد وتولد قبل هذا.
الثالث: توهم بعضهم أن كلمة (من دون الله) تفيد أنّ النصارى يعتقدون أن عيسى وأمه، عليهما السلام. مستقلان باستحقاق العبادة، بدلا عن الله تعالى. كما يقال: اتخذت فلانا صديقا دوني. فإن معناه أنه استبدله به، لا أنه جعله صديقا معه.
وهم لم يقولوا بذلك. بل ثلّثوا. فأجاب: بأن من أشرك مع الله غيره فقد نفاه معنى.
لأنه وحده لا شريك له، منزه عن ذلك. فإقراره بالله كلا إقرار. فيكون مِنْ دُونِ اللَّهِ مجازا عن (مع الله) . ولا يخفى أن هذا تكلف. لأن توبيخهم إنما يحصل بما يعتقدونه ويعترفون به صريحا لا بما يلزمه بضرب من التأويل. فالصواب أن المراد اتخاذهما بطريق إشراكهما به سبحانه. كما في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً [البقرة: ١٦٥] . وقوله عز وجل: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ- إلى قوله تعالى- سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: ١٨] . إذ به يتأتى التوبيخ، ويتسنى التقريع والتبكيت. هذا ما حققوه هنا.
وأقول: إن كلمة (دون) في هذه الآية وأمثالها بمعنى (غير) كما حققه اللغويون. ولا تفيد، وضعا، الاستقلال والبدلية، كما توهم وسر ذكرها إفهام الشركة.
لأنه لولاها لتوهم دعوى انحصار الألوهية فيما عداه. مع أنهم لا يعتقدون ذلك. ولا