الخليل عليه الصلاة والسلام من حيث تحيرهم، فاستدل عليهم بما اعترفوا بصحته، وذلك أبلغ في الاحتجاج. ثم فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ
. فيا عجبا! من لا يعرف ربّا كيف يقول: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ؟ رؤية الهداية من الرب تعالى غاية التوحيد، ونهاية المعرفة، والواصل إلى الغاية والنهاية، كيف يكون في مدارج البداية؟ دع هذا كله خلف قاف، وارجع بنا إلى ما هو شاف كاف. فإن الموافقة في العبارة على طريق الإلزام على الخصم من أبلغ الحجج، وأوضح المناهج.
وعن هذا قال: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ لاعتقاد القوم أن الشمس ملك الفلك، وهو رب الأرباب الذي يقتبسون منه الأنوار، ويقبلون منه الآثار فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قرر مذهب الحنفاء، وأبطل مذهب الصابئة، وبين أن الفطرة هي الحنيفية، وأن الطهارة فيها، وأن الشهادة بالتوحيد مقصورة عليها، وأن النجاة والخلاص متعلقة بها، وأن الشرائع والأحكام مشارع ومناهج إليها، وأن الأنبياء والرسل مبعوثة لتقريرها وتقديرها، وأن الفاتحة والخاتمة، والمبدأ والكمال، منوطة بتلخيصها وتحريرها. ذلك الدين القيم، والصراط المستقيم، والمنهج الواضح، والمسلك اللائح. انتهى كلام الشهرستاني رحمه الله تعالى. وإنما نقلت كلامه برمته، لأنه كما قيل:
وما محاسن شيء كلّه حسن
وقد قدّم رحمه الله الكلام على أصحاب الروحانيات الصابئة، وأتبعها بمناظرة بديعة جرت بينهم وبين الحنفاء، بما تفيد مراجعته فائدة كبرى. فجزاه الله خيرا.
الثاني- تبيّن مما ذكره الشهرستانيّ أن سر احتجاج الخليل عليه الصلاة والسلام بالأفول دون البزوغ، مع كون كل منهما منافيا لاستحقاق معروضه للربوبية- هو إتيانهم من حيث تحيرهم، إلزاما لهم بما يعترفون بصحته.
وقال أبو السعود: لما كان البزوغ حالة موجبة لظهور الآثار والأحكام، ملائمة لتوهم الاستحقاق في الجملة- عدل عنه إلى الأفول، لأنه حالة مقتضية لانطماس الآثار، وبطلان الأحكام المنافيين للاستحقاق المذكور منافاة بينة، يكاد يعترف بها كل مكابر عنيد. انتهى. وهو لطيف إلا أن الأول أسدّ.
الثالث- لو قيل: إن الأفول، لما كان يمنع من استحقاق معروضه لصفة