الذكر ب (المستقر) لأن النطفة إنما تتولد في صلبه، وإنما تستقر هناك. وعبر عن الأنثى ب (المستودع) لأن رحمها شبيهة بالمستودع لتلك النطفة- والله أعلم-.
وعلى قراءة (مستقر) بكسر القاف اسم فاعل، أي: فمنكم قارّ، ومنكم مستودع، ووجه كون الأول معلوما. والثاني مجهولا، كون الاستقرار صادرا منّا دون الاستيداع.
قال الرازيّ: مقصود الآية أن الناس إنما تولدوا من شخص واحد وهو آدم عليه السلام، ثم اختلفوا في المستقر والمستودع بحسب الوجوه المذكورة فنقول:
الأشخاص الإنسانية متساوية في الجسمية، ومختلفة في الصفات التي باعتبارها حصل التفاوت في المستقر والمستودع. والاختلاف في تلك الصفات لا بدّ له من سبب ومؤثر، وليس السبب هو الجسمية ولوازمها، وإلا لامتنع حصول التفاوت في الصفات، فوجب أن يكون السبب هو الفاعل المختار الحكيم. ونظير هذه الآية في الدلالة قوله تعالى: وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ [الروم: ٢٢] .
قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ قال الزمخشري: فإن قلت، لم قيل (يعلمون) مع ذكر النجوم، و (يفقهون) مع ذكر إنشاء بني آدم؟ قلت: كان إنشاء الإنس من نفس واحدة، وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرا. فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر، مطابقا له. انتهى- وهذا بناء على أن الفقه شدة الفهم والفطنة، ومن قال: إنه الفهم مطلقا، وليس بأبلغ من العلم- قال: إنه تفنن، حذرا من صورة التكرير.
قال الناصر في (الانتصاف) : جواب الزمخشريّ صناعيّ، وإلا فلا يتحقق هذا التفاوت، ولا سبيل إلى الحقيقة. قال: والتحقيق أنه لما أريد فصل كليهما بفاصلة تنبيها على استقلال كل واحدة منهما بالمقصود من الحجة، كره فصلهما بفاصلتين متساويتين في اللفظ، لما في ذلك من التكرار، فعدل إلى فاصلة مخالفة، تحسينا للنظم، واتساقا في البلاغة، ويحتمل وجها آخر في تخصيص الأولى بالعلم، والثانية بالفقه، وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله، ولا يعتبر بمخلوقاته، وكانت الآيات المذكورة أولا خارجة عن أنفس النظار ومنافية لها، إذ النجوم والنظر فيها، وعلم الحكمة الإلهية في تدبيره لها، أمر خارج عن نفس الناظر، ولا كذلك النظر في إنشائهم من نفس واحدة، وتقلباتهم في أطوار مختلفة، وأحوال متغايرة فإنه نظر لا يعدو نفس الناظر، ولا يتجاوزها. فإذا تمهد ذلك. فجهل الإنسان