يفعل وهم يسألون. فإنّ هؤلاء الكفار إنما قالوا هذه المقالة- التي حكاها الله عنهم- استهزاء منهم، ولو قالوا- اعتقادا للقضاء والقدر، وإسنادا لجميع الكائنات إلى مشيئته وقدرته- لم ينكر عليهم. ومضمون قول هذه الفرقة إنّ هذه حجة صحيحة إذا قالوها على وجه الاعتقاد- لا على جهة الاستهزاء- فيكون للمشركين على الله الحجّة، وكفى بهذا القول فسادا وبطلانا.
الفرقة الثانية: جعلت هذه الآيات حجة لها في إبطال القضاء والقدر والمشيئة العامة إذ لو صحت المشيئة العامة- وكان الله قد شاء منهم الشرك والكفر وعبادة الأوثان- لكانوا قد قالوا الحق، وكان الله يصدقهم عليه ولم ينكر عليهم. فحيث وصفه بالخرص- الذي هو الكذب- ونفى عنهم العلم، دلّ على أن هذا الذي قالوه ليس بصحيح، وأنهم كاذبون فيه إذ لو كان علما لكانوا صادقين في الإخبار به، ولم يقل لهم: هل عندكم من علم.
وجعلت هذه الفرقة هذه الآيات حجة لها على التكذيب بالقضاء والقدر، وزعمت بها أن يكون في ملكه ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون، وإنه لا قدرة له على أفعال عبادة من الإنس والجن والملائكة، ولا على أفعال الحيوانات. وإنه لا يقدر أن يضل أحدا، ولا يهديه، ولا يوفقه أكثر مما فعل به، ولا يعصمه من الذنوب والكفر، ولا يلهمه رشده، ولا يجعل في قلبه الإيمان، ولا هو الذي الذي جعل المصلّي مصليا والبرّ برّا والفاجر فاجرا والمؤمن مؤمنا والكافر كافرا. بل هم جعلوا أنفسهم كذلك.
فهذه الفرقة شاركت الفرقة التي قبلها في إلقاء الحرب والعداوة بين الشرع والقدر. فالأولى تحيزت إلى القدر وحاربت الشرع. والثانية تحيزت إلى الشرع، وكذبت القدر. والطائفتان ضالتان، وإحداهما أضلّ من الأخرى.
و (الفرقة الثالثة) : آمنت بالقضاء والقدر وأقرت بالأمر والنهي. ونزّلوا كلّ واحد منزلته: فالقضاء والقدر يؤمن به ولا يحتجّ به، والأمر والنهي يمتثل ويطاع. فالإيمان بالقضاء والقدر- عندهم- من تمام التوحيد وشهادة أن لا إله إلّا الله. والقيام بالأمر. والنهي موجب شهادة أن محمدا رسول الله. وقالوا: من لم يقرّ بالقضاء والقدر، ويقم بالأمر والنهي فقد كذّب بالشهادتين وإن نطق بهما بلسانه. ثمّ افترقوا في وجه هذه الآيات فرقتين:(فرقة) قالت: إنما أنكر عليهم استدلالهم بالمشيئة العامة والقضاء والقدر على رضاه ومحبته لذلك. فجعلوا مشيئته له وتقديره له، دليلا