والعناية بالوقوف على مراد المتكلم منه. نعم، إننا لا نتسامى إلى فهم مراد الله تعالى كلّه على وجه الكمال والتمام، ولكن يمكننا فهم ما نهتدي به بقدر الطاقة، ويحتاج في هذا إلى علم الإعراب وعلم الأساليب- المعاني والبيان- ولكن مجرّد العلم بهذه الفنون، وفهم مسائلها، وحفظ أحكامها، لا يفيد المطلوب. ترون في كتب العربيّة أنّ العرب كانوا مسدّدين في النطق يتكلمون بما يوافق القواعد قبل أن توضع! أتحسبون أنّ ذلك كان طبيعيا لهم؟ كلا! وإنما هي ملكة مكتسبة بالسماع والمحاكاة، ولذلك صار أبناء العرب أشدّ عجمة من العجم عند ما اختلطوا بهم، ولو كان طبيعيا ذاتيا لهم لما فقدوه في مدّة خمسين سنة من بعد الهجرة ... !
ثالثها: علم أحوال البشر: فقد أنزل الله هذا الكتاب وجعله آخر الكتب وبيّن فيه ما لم يبيّنه في غيره. بيّن فيه كثيرا من أحوال الخلق وطبائعه، والسنن الإلهية في البشر، وقصّ علينا أحسن القصص عن الأمم وسيرها الموافقة لسنته فيها، فلا بدّ للناظر في هذا الكتاب من النظر في أحوال البشر في أطوارهم، وأدوارهم، ومناشئ اختلاف أحوالهم من قوّة وضعف، وعزّ وذلّ، وعلم وجهل، وإيمان وكفر، ومن العلم بأحوال العالم الكبير علويّة وسفليّة، ويحتاج في هذا إلى فنون كثيرة من أهمّها:
التاريخ بأنواعه.
أجمل القرآن الكلام عن الأمم، وعن السنن الإلهية، وعن آياته في السموات والأرض وفي الآفاق والأنفس، وهو إجمال صادر عمّن أحاط بكل شيء علما، وأمرنا بالنظر والتفكّر والسير في الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالا ... ! ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة في ظاهره، لكنّا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده، لا بما حواه من علم وحكمة ... !
رابعها: العلم بوجه هداية البشر كلهم بالقرآن. فيجب على المفسّر القائم بهذا الفرض الكفائيّ أن يعلم بما كان عليه الناس في عصر النبوّة من العرب وغيرهم، لأن القرآن ينادي بأنّ الناس كلهم كانوا في شقاء وضلال، وأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعث لهدايتهم وإسعادهم..! وكيف يفهم المفسّر ما قبحته الآيات من عوائدهم على وجه الحقيقة- أو ما يقرب منها- إذا لم يكن عارفا بأحوالهم وما كانوا عليه. هل يكتفي من علماء القرآن- دعاة الدين والمناضلين عنه- بالتقليد بأن يقولوا- تقليدا لغيرهم- إنّ الناس كانوا على باطل، وإن القرآن دحض أباطيلهم في الجملة؟ كلا ... !
خامسها: العلم بسيرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وما كانوا عليه من علم وعمل، وتصرّف في الشؤون دنيويّها وأخرويّها.