وقد بسطت الكلام فيه في شرحي على (الأربعين العجلونية) الثالثة- قال القاضي: في خلق الأشياء مدرّجا، مع القدرة على إيجادها دفعة- دليل للاختيار، أي لأنه لو كان بالإيجاب، لصدر دفعة واحدة. وفيه حث على التأني في الأمور.
وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ اعلم أن الاستواء ورد على معان اشترك لفظه فيها، فجاء بمعنى الاستقرار ومنه: اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود: ٤٤] ، وبمعنى القصد ومنه: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [البقرة: ٢٩] ، وكل من فرغ من أمر وقصد لغيره فقد استوى له وإليه قال الفرّاء: تقول العرب: استوى إليّ يخاصمني، أي أقبل عليّ، ويأتي بمعنى الاستيلاء قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق وقال آخر:
فلما علونا واستوينا عليهم ... تركناهم صرعى لنسر وكاسر
ويأتي بمعنى العلوّ، ومنه آية: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ [المؤمنون: ٢٨] : ومنه هذه الآية قال البخاري في آخر (صحيحه) ، في كتاب الردّ على الجهمية، في باب قوله تعالى: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هود: ٧] ، قال مجاهد: استوى، علا على العرش- انتهى-.
وفي كتاب (العلوّ) للحافظ الذهبي قال إسحاق بن راهويه: سمعت غير واحد من المفسرين يقول: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥] ، أي ارتفع. ونقل ابن جرير عن الربيع بن أنس أنه بمعنى ارتفع. وقال: إنه في كل مواضعه بمعنى علا وارتفع، وأقول: لا حجة إلى الاستكثار من ذلك، فإن الاستواء غير مجهول، وإن كان الكيف مجهولا.
روى الإمام أحمد بن حنبل في كتابه (الرد على الجهمية) عن شريح بن النعمان، عن عبد الله بن نافع قال: قال مالك بن أنس: الله في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو منه شيء.
وروى البيهقي عن ابن وهب قال: كنت عند مالك، فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله! الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى كيف استوى؟ فأطرق مالك، وأخذته