ذلك، تنبيها للغبيّ، وتأييدا للألمعيّ. فنقول: قال حجّة الإسلام الغزاليّ قدّس الله روحه في كتابه «إلجام العوام عن علم الكلام» .
الباب الثاني في إقامة البرهان على أن الحق مذهب السلف، وعليه برهانان عقليّ وسمعيّ:
«أمّا العقليّ فاثنان: كلّي وتفصيليّ. أما البرهان الكليّ على أنّ الحق مذهب السلف، فينكشف بتسليم أربعة أصول هي مسلّمة عند كل عاقل:
الأول: أنّ أعرف الخلق بصلاح أحوال العباد، بالإضافة إلى حسن المعاد هو النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن ما ينتفع به في الآخرة- أو يضر، - لا سبيل إلى معرفته بالتجربة- كما عرف الطبيب- إذ لا مجال للعلوم التجريبية إلا بما يشاهد على سبيل التكرر، ومن الذي رجع من ذلك العالم فأدرك بالمشاهدة ما نفع وضرّ، وأخبر عنه؟ ولا يدرك بقياس العقل، فإن العقول قاصرة عن ذلك، والعقلاء بأجمعهم معترفون بأنّ العقل لا يهتدي إلى ما بعد الموت، ولا يرشد إلى وجه ضرر المعاصي ونفع الطاعات، لا سيما على سبيل التفصيل والتحديد- كما وردت به الشرائع- بل أقرّوا بجملتهم: أن ذلك لا يدرك إلا بنور النبوّة، وهي قوة وراء قوة العقل، يدرك بها من أمر الغيب في الماضي والمستقبل أمور لا على طريق التعريف بالأسباب العقلية. وهذا مما اتفق عليه الأوائل من الحكماء، فضلا عن الأولياء والعلماء الراسخين، القاصرين نظرهم على الاقتباس من حضرة النبوّة، المقرّين بقصور كل قوّة سوى هذه القوة.
الأصل الثاني: أنه صلّى الله عليه وسلّم أفاض إلى الخلق ما أوحي إليه من صلاح العباد في معادهم ومعاشهم، وأنه ما كتم شيئا من الوحي وأخفاه وطواه عن الخلق، فإنه لم يبعث إلا لذلك، ولذلك كان رحمة للعالمين، فلم يكن متهما فيه، وعرف ذلك علما ضروريا من قرائن أحواله في حرصه على إصلاح الخلق، وشغفه بإرشادهم إلى صلاح معاشهم ومعادهم، فما ترك شيئا مما يقرب الخلق إلى الجنة ورضاء الخالق إلّا دلّهم عليه، وأمرهم به، وحثّهم عليه، ولا شيئا مما يقرّبهم إلى النار وإلى سخط الله إلا حذّرهم منه ونهاهم عنه، وذلك في العلم والعمل جميعا.
الأصل الثالث: أن أعرف الناس بمعاني كلامه، وأحراهم بالوقوف على كنهه ودرك أسراره، الذين شاهدوا الوحي والتنزيل، وعاصروه، وصاحبوه، بل لازموه آناء الليل والنهار، متشمّرين لفهم معاني كلامه وتلقيه بالقبول: للعلم به أولا، وللنقل إلى من بعدهم ثانيا، وللتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بسماعه وفهمه وحفظه ونشره.