إن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتدالون التمرة بينهم، يمصها هذا، ثم يشرب عليها، ثم يمصها الآخر، ثم يشرب عليها: وفي عسرة من شدة لهبان الحرّ ومن الجدب. وفي عسرة من الماء، حتى بلغ بأحدهم العطش أن نحر بعيره، فعصر فرثه فشربه، وجعل ما بقي على كبده.
وقد حكى القالي في (أماليه) أن العرب كانوا إذا أرادوا توغل الفلوات التي لا ماء فيها، سقوا الإبل على أتم أظمائها ثم قطعوا مشافرها، أو خزموها لئلا ترعى، فإذا احتاجوا إلى الماء، افتظوا كروشها، فشربوا ثميلها، وهو كثير في الأشعار. كذا في (العناية) .
ونقل الرازي عن أبي مسلم أنه يجوز أن يكون المراد ب (ساعة العسرة) جميع الأحوال والأوقات الشديدة على الرسول، وعلى المؤمنين، فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها. وقد ذكر تعالى بعضها في كتابه كقوله سبحانه: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب: ١٠] . وقوله: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ ... [آل عمران: ١٥٢] الآية- والمقصود منه وصف المهاجرين والأنصار بأنهم اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلّم في الأوقات الشديدة، والأحوال الصعبة، وذلك يفيد نهاية المدح والتعظيم. انتهى.
أقول: هذا الاحتمال، وإن كان مما يسعه اللفظ الكريم، إلا أنه يبعده عنه سياق الآية، وسياقها، القاصران على غزوة تبوك. ولم يتفق في غيرها عسر في الخروج، واتباعه عليه السلام، بل وقع أحيانا في مصاف القتال. وقد اتفق علماء الأثر والسير على تسميتها (غزوة العسرة) ، ومن خرج فيها (جيش العسرة) .
وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أي عن الحق، أو الثبات على الاتباع للذي نالهم من المشقة والشدة في سفرهم. وفي تكرير التوبة عليهم بقوله تعالى: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ تأكيد ظاهر، واعتناء بشأنها، هذا إذا كان الضمير راجعا إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم، وإن كان الضمير إلى الفريق الثاني، فلا تكرار.
قال بعضهم: ذكر التوبة أولا قبل ذكر الذنب، تفضلا منه، وتطييبا لقلوبهم.
ثم ذكر الذنب بعد ذلك، وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى، تعظيما لشأنهم، وليعلموا أنه تعالى قد قبل توبتهم، وعفا عنهم. ثم أتبعه بقوله: إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ تأكيدا لذلك.