للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

روي أن أبا ذر رضي الله عنه، أبطأ به بعيره، فحمل متاعه على ظهره، واتبع أثر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ماشيا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما رأى سواده: كن أبا ذر! فقال الناس:

هو ذاك! فقال: رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده.

وروي أن أبا خيثمة الأنصاري رضي الله عنه، بلغ بستانه، وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب، والماء البارد. فنظر فقال: ظل ظليل، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الضح والريح، ما هذا بخير! فقام فرحل ناقته، وأخذ سيفه ورمحه، ومرّ كالريح.

فمدّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرفه إلى الطريق، فإذا براكب يزهاه السراب، فقال: كن أبا خيثمة! فكأنه، ففرح به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واستغفر له.

قال السهيليّ في (الروض) : كن أبا ذر، كن أبا خيثمة، لفظه لفظ الأمر، ومعناه كما تقول: أسلم، أي سلمك الله- انتهى-.

وكذا قال غيره من المتقدمين كالفارسي وذكره المطرزي في قول الحريري:

كن أبا زيد.

وفي شعر ابن هلال:

ومعذّر قال الإله لحسنه: ... كن فتنة للعالمين فكأنها

ولم يزيدوا في بيانه على هذا. وهو تركيب بديع غريب. ومعناه ساقه الله إلينا، وجعله إياه، ليكون هو القادم علينا. فأقيم فيه العلة مقام المعلول في الجملة الدعائية الإنشائية، على حد

قوله في الحديث «١» : أبل، وأخلق.

أي عمرك الله، ومتعك الله بلباسك لتبلى وتخلق. وقولهم: أسلم. أي سلمك الله لتسلم. ثم لما أقيم مقامه أبقي مسندا إلى فاعله، وإن كان المطلوب منه هو الله، وهو قريب من قولهم (لا أرينّك ها هنا) أي لا تجلس حتى أراك. وهو تمثيل أو كناية. كذا في (العناية) .

ذلِكَ إشارة إلى ما دل عليه قوله ما كانَ من النهي عن التخلف أو وجوب المشابهة بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ أي شيء من العطش وَلا نَصَبٌ أي تعب من السير لا سيما مع العطش وَلا مَخْمَصَةٌ أي مجاعة


(١) الحديث أخرجه البخاري في: الجهاد، ١٨٨- باب من تكلم بالفارسية والرطانة، والحديث رقم ١٤٥٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>