يناسب حكم سيدنا يوسف عليه السلام، وذلك أنه أمر أتباعه أن يسألوهم قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ [يوسف: ٧٤] الآية، فكانت شريعة بني يعقوب أن يستعبدوا السارق سنة عند صاحب المتاع، فعاملهم بما هم عليه، ولذلك يقول الله تعالى: ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف: ٧٦] ، امتدح على حسن خطته في السياسة ومراعاته عادة أولئك القوم. وهذه- وإن كانت مسألة بسيطة الظاهر- فهي أم السياسة ورأس علوم العمران، وأول ما يوصى به السواس والعقلاء! تالله! ما أجمل القرآن وما أبهج العلم! وليت شعري كيف يقول الله بعدها نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف: ٧٦] . ولولا ما فيها من مبدأ شريف وحكم عالية مع وضوحها وبساطتها لذوي النظر السطحي والبله الغفّل، ما أعطاها هذا الجلال والإعظام ومدح العلم! فحيا الله العلم وأدام دولته.!
ومن العجب الغريب تدبير هذه الحيلة بإخفاء الصواع، ثم نظر أمتعتهم جميعا فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ [يوسف:
٧٦] ، وهذه: - وأيم الله- هي بعينها ما يصنعه ملوك الأرض قاطبة اليوم من السياسات والتلطف في الأمور الخفية، وإلباسها ألبسة مختلفة لسياسة بلادهم، وطلبا لحصول المقاصد النافعة، ودخولا للبيوت من أبوابها ولكن بينهم وبين هذا النبيّ بون بعيد ... ! فانظر كيف تعطي هذه القصة هذه الأمور العجيبة! لعمري! إن من طالع ما أمليناه بإمعان عن هذه القصة يتخيل عند تلاوتها أنه مشاهد أعمال الأمم الحاضرة والغابرة! وكأنما طالع آراء أهل المدينة الفاضلة، وعرف الحكماء وسواس الأمم، وشاهد جمال العلم والأدب والحكمة والموعظة الحسنة، حتى يعلم علم اليقين كيف قال الله في أول السورة نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ [يوسف: ٣] ، ويقول في آخرها: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [يوسف: ١٠٢] ، ويقول:
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف: ١٠٨] ، ثم ذكر أن الإنسان لا ينبغي له أن ييأس من روح الله فقال: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ ... [يوسف: ١١٠] الآية، ثم أفاد أن المقصود هو العبر والنظر لتأثير القصص وثمراتها، لا مجرد تفسيرها إذ مجرد التفسير أمر بسيط يقنع به البسطاء. وإنما المقصد هو الاتعاظ والاعتبار فقال: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ، ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى.. الآية.