فأما النعم التي يمتّع الله بها بعض الأشخاص في هذه الحياة، والرزايا التي يرزأ بها في نفسه فكثير منها كالثروة والجاه والقوة والبنين، أو الفقر والضعة والضعف والفقد، وقد لا يكون كاسبها أو جالبها ما عليه الشخص في سيرته من استقامة أو عوج أو طاعة وعصيان! وكثيرا ما أمهل الله بعض الطغاة البغاة، أو الفجرة الفسقة.
وترك لهم متاع الحياة الدنيا.، إنظارا لهم، حتى يتلقاهم ما أعدّ لهم من العذاب المقيم في الحياة الأخرى! وكثيرا ما امتحن الله الصالحين من عباده، وأثنى عليهم في الاستسلام لحكمه، وهم الذين إذا أصابتهم مصيبة، عبّروا عن إخلاصهم في التسليم بقوله: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! فلا غضب زيد. ولا رضا عمرو، ولا إخلاص سريرة، ولا فساد عمل مما يكون له دخل في هذه الرزايا، ولا في تلك النعم الخاصة، اللهمّ إلّا فيما ارتباطه بالعمل ارتباط المسبب بالسبب على جاري العادة.
كارتباط الفقر بالإسراف، والذل بالجبن، وضياع السلطان بالظلم. وكارتباط الثروة بحسن التدبير في الأغلب. والمكانة عند الناس بالسعي في مصالحهم على الأكثر.
وما يشبه ذلك مما هو مبين في علم آخر..!
أما شأن الأمم فليس على ذلك فإن الروح الذي أودعه الله جميع شرائعه الإلهية: من تصحيح الفكر، وتسديد النظر، وتأديب الأهواء، وتحديد مطامح الشهوات، والدخول إلى كل أمر من بابه، وطلب كل رغيبة من أسبابها، وحفظ الأمانة، واستشعار الأخوة، والتعاون على البرّ، والتناصح في الخير والشر، وغير ذلك من أصول الفضائل: ذلك الروح هو مصدر حياة الأمم، ومشرق سعادتها في هذه الدنيا قبل الآخرة وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها [آل عمران: ١٤٥] ، ولن يسلب الله عنها نعمته ما دام هذا الروح فيها. يزيد الله النعم بقوته وينقصها بضعفه حتى إذا فارقها ذهبت السعادة على أثره وتبعته الراحة إلى مقره! واستبدل الله عزة القوم بالذل، وكثرهم بالقل، ونعيمهم بالشقاء، وراحتهم بالعناء، وسلط عليهم الظالمين أو العادلين فأخذهم بهم وهم في غفلة ساهون: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
[الإسراء: ١٦] ، أمرناهم بالحق ففسقوا عنه إلى الباطل، ثم لا ينفعهم الأنين، ولا يجديهم البكاء، ولا يفيدهم ما بقي من صور الأعمال ولا يستجاب منهم الدعاء ولا كاشف لما نزل بهم إلّا أن يلجئوا إلى ذلك الروح الأكرم فيستنزلوه من سماء الرحمة يرسل الفكر والذكر والصبر والشكر إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب: ٦٢] ، وما أجل ما قاله العباس بن عبد