للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقوله تعالى: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ يحتمل الأيدي والأفواه أن يكونا الجارحتين المعروفتين. وأن يكونا من مجاز الكلام. وفي الأول وجوه:

أي: ردوا أيديهم في أفواههم فعضوها غيظا وضجرا مما جاءت به الرسل، كقوله: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [آل عمران: ١١٩] ، أو وضعوها على أفواههم ضحكا واستهزاء كمن غلبه الضحك. أو وضعوها على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء: أن يكفّوا ويسكتوا. أو أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل أن:

اسكتوا. و (في) بمعنى (إلى) أو وضعوا أيديهم على أفواه الرسل منعا لهم من الكلام أو أنهم أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليقطعوا كلامهم. ومن بالغ في منع غيره من الكلام فقد يفعل به ذلك. أو أشاروا بأيديهم إلى جوابهم وهو قولهم إِنَّا كَفَرْنا أي: هذا جوابنا الذي نقوله بأفواهنا، والمراد إشارتهم إلى كلامهم كما يقع في كلام المتخاطبين، أنهم يشيرون إلى أن هذا هو الجواب ثم يقرّرونه، أو يقررون ثم يشيرون بأيديهم إلى أن هذا هو الجواب. قيل: وهو أقوى الوجوه المتقدمة. لأنهم لما حاولوا الإنكار على الرسل كل الإنكار، جمعوا في الإنكار بين الفعل والقول. ولذا أتى بالفاء تنبيها على أنهم لم يمهلوا، بل عقبوا دعوتهم بالتكذيب. وفي تصديرهم الجملة ب (أن) ومواجهة الرسل بضمائر الخطاب وإعادة ذلك، مبالغة في التأكيد.

وفي الثاني- أعني المعنى المجازيّ- وجوه:

قال أبو مسلم الأصفهانيّ: المراد باليد ما نطقت به الرسل من الحجج، وذلك لأن إسماع الحجة إنعام عظيم، والإنعام يسمى يدا، يقال لفلان عندي يد إذا أولاه معروفا وقد يذكر اليد والمراد منها صفقة البيع والعقد، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: ١٠] . فالبينات التي كان الأنبياء عليهم السلام يذكرونها ويقررونها نعم وأياد، وأيضا العهود التي كانوا يأتون بها مع القوم أياد وجمع اليد في العدد القليل هو الأيدي، وفي العدد الكثير الأيادي. فثبت أن بيانات الأنبياء عليهم السلام وعهودهم صح تسميتها بالأيدي.

وإذا كانت النصائح والعهود إنما تظهر من الفم، فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت ونظير قوله تعالى: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [النور: ١٥] ، فلما كان القبول تلقيا بالأفواه عن الأفواه كان الدفع ردا في الأفواه. انتهى.

<<  <  ج: ص:  >  >>